أمانا أيها القلب..

أمانا أيها القلب..
إن الزوابع دوما تخطيء الهدفا...

الجمعة، 1 يوليو 2011

السجود الأخير



 
(1)

الفراش الملتوي في ركن من غرفتها كان معزرا تعزيرا قاسيا،،
تركته مهملا لا يحتويها. بدا شبحا ميتا تثقله الكتب التي آثرت أن تُرْقدها عليه بدلا منها.
(ساجدة) المولعة بالقراءة تتبعثر في أخيلتها آلاف الأوراق، تماما كما تتبعثر الكتب في أنحاء غرفتها..
نسيت أنها على صيام منذ يومين ولم تبل ريقها إلا بقطرات من الماء، في حين أنها وفي عالمها الداخلي يخيل إليها أنها أفطرت، بل وأتخمت من فرط ما أكلت.. فحينا أحداث المعركة، والتحام الجيشين ، وبئر بدر ، وعير أبي سفيان.. وحينا آخر حديث قتيبة لحماد، وحديث محمود بن غيلان.. وحينا ثالثا كابوس الحروب الباردة، وسقوط الشيوعية.. وحينا رابعا قلقلة أبي فراس، وفاروق جويدة، والقوم الذين في كل واد يهيمون، مرورا بمعارك الكلام والجدل، وحكم ابن عطاء..
كانت هذه الأصناف فطورها وسحورها في أيام صيامها،،
وكانت كل شيء فيما تبقى من أيام..
الآن وبعد يوم متخم بأصناف من الكتب التي تفضلها على غيرها.. في هذه الساعة المتأخرة من ليلة مقمرة يتأرجح القمر فيها مع نجمته التي لا تفارقه؛ تروي ساجدة ظمأ عينيها من هالة القمر التي طالما أَسَرَتْها، رغم أنها تُفْقِدُها بعضَ نظرها لبرهة من الزمن حين تحدق بعينيها الشاخصتين إلى لوحة الكون المسطرة بأحرف من نور..
شيئا فشيئاً.. تنهار قواها، وتنهار عندها أسطورة الإسراف على النفس، وترجيح كفة الميزان –بلا عدل  أو إنصاف– على الكفة الأخرى،،
تستسلم ساجدة لنوم  أشبه بنوم الحارس على ثغور المدينة!!
يا للمسكينة، تحسب أنها في بدر وقد غَشِيَها النعاسُ أمنةً من الله..
يصطدمُ رأسها مرات ومرات بالكتاب الذي  في يديها، وكأنها في معركة، تخادع نفسها إذ ترى أن العصامية العمياء أقوى معايير الصمود في مثل هذه اللحظات،،
لا النوم ولا قسط من الراحة يستطيعان أن يهزما هذا التحدي!

- والفجـــــــــــــــــــــــــــــر يا ساجدة ؟!!!!

تسمعُ صوتَ نفسِها المعاتبةِ فيما يُشْبِهُ حديثَ المجنون إلى نفسه ، وترد عليها بلا اكتراث :
- ما الخطب ؟ ..
   ما بال الفجر؟ ألست من يوقظ الجميع لأدائها؟!

- بلى يا ساجدة ، ولكن أما آن أن تعتقي نفسك؟
ألم تلحظي أنك تصلين الفجر غالبا بوضوء العشاء؟!!!
ألم يأن لك أن تلتفتي إلى هذه العظام التي  شقت طريقها إلى ما لا يحل لها من حيز جسمك المتحلل.. عيناك يا ساجدة فقدتا بريقهما الجميل، واستبدلتهما رعونتك بهالات سوداء كخيام بالية في صحراء مقفرة. صفحة وجهك يا ساجدة باتت أشبه ما تكون بأوراق الخريف الباهتة، المتشققة..

- رويدكِ ،، رويدكِ !
فعبدالله بن المبارك يستجدي الهدوءَ لإتمام رسالةِ التقريع للفُضيل القابعِ في الحرم متعبدا متبتلا..
رويدكِ .. إنه الآنَ يكتبُ قصيدتَه:
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتَنــــــا
من كان يَخْضِبُ خدَّه بدموعِهِ
أو كان يُتْعِبُ خيلَه في باطــــــــلٍ


لعلمتَ أنك بالعبادةِ تلعــبُ
فنحورُنا بدمائنا تتخضـــــــبُ
فخيولُنا يوم الصبيحةِ تتعبُ


- وماذا بعد يا ساجدة؟

(وفي تمتمات متقطعة.. بين اليقظة.. والمنام )
- ريحُ .. العبير .. لَكُم
..ونحن عبيرُنا..
..رهجٌ.. آآآآآآه... آآآآآه.. رهجُ السنابكِ.. والغبارُ.. الأطيبُ......
عنيدة جدا على سنن الفطرة المتوازنة ،، كما أنها عنيدة أمام المتغيرات الهشة.
تستسلم ساجدة مرغمة لنوم ينتظره عتاب طويل منها حال يقظتها.. وفي مسرح الرؤى والأضغاث، تتجاذبها الأحداث؛ لتتبلور ملحمة المعايشة الفاعلة للواقع، وللخيال، وللرؤى..
هي الآن وحدها مع شخوص عرفتهم في أحضان الكتب المتبعثرة في حقيقتها..
تلقي رياح المنام ورقة تحت قدميها، تلتقطها التقاط العارف بحدسه ماهية المنقوش من أحرف بداخلها، تبتسم ساجدة ابتسامة غامضة وهي تقرأ:
"القصة صحيحة ذكرها ابن عساكر بسنده في ترجمة عبدالله بن المبارك ونقلها الحافظ الذهبي في موسوعته سير أعلام النبلاء"

- بئست الكتب !!
و بئست الحروف والكلمات !!
أحتى في رؤاك يا ساجدة ؟!
قاسية تلك القراءات ، وقاسية تلك الكتب ، التي سجنتك في زنازينها إلى يوم البعث.. أحقيقة أن المرء يصغر أمام ما يقرأ، فيكون تحت طواعيته، ويتشكل كالصلصال، كتلة فوق كتلة، وهو بين من يقرأ وبين من يتعامل في زاوية متقاطعة لا إلى هؤلاء،، ولا إلى هؤلاء..
مسكينة أنت يا ساجدة ، قبل لحظات كنت تشهدين ميلاد خِطابِ ابن المبارك لصاحبه ابن عياض  في محفل لم تميزيه أكان في الواقع أم في عالم الكتب، ومن ثم..
وعلى مقربة من شاطئ الحلم تقذف إليك أمواجه بورقة تؤكد لك الرواية، ولكن أحق أن ابن المبارك كتب تلك الأبيات أم لا ؟! فالبعض يقول يا ساجدة إنها زورٌ وبهتان وافتراء!!!
أحقا أنه كتب أبياتا ركيكة كتلك؟!!
أحقا أن ابن المبارك وهو العابد المجاهد يقرع الفضيل  و ينعت العبادة في الحرم بأنها لعب؟!!!
عودي إلى رشدك يا ساجدة ، إنك تحلمين ، وعالم الكتب مليء بالأحداث والأخبار  والشخوص فلا تلقين لأعماقك الطعم لتبتلعه شهوة القراءة لديك ،فيتزاحم الطريق الطويل في أرضك المكتظة بالحياة.. والموت !!!
أي سماء تظل أحاسيس البشر جميعا يا ساجدة، وأي أرض تقل زفرات الحزانى.. وما أكثرهم!!
فرفقا بسمائك، ورفقا بأرضك..
الدنيا يا ساجدة ساعة من زمن، قصيرة في أعين العقلاء، مثقلة بالواجبات، أنت فيها وجود حقيقي لا تشبهين أحدا، لست شمعة محترقة كما يخيل إليك؛ فالشمعة هباء، والشمعة عما قريب احتراقها، لست زنبقة  كما عبرت عن نفسك ذات حزن! فالزنابق أعواد يابسة متكسرة، إنك لست رواية أو حدثا أو أسطورة!!!
أنت مؤمنة،،
والإيمان منبه للجوارح  لئلا تستغرق في سكرة الازدواجية التي تطعن في كينونة العقل المستقيم.
الإيمان ضياء يا ساجدة.. لوحة مفاتيح لعبور آلاف القناطر في دروب العتمة !!

ما أطول الحديث حينما يكون عتابا بين طرفين، أحدهما ساجدة والآخر نفسها العميقة المليئة بملفات متشعبة مختلطة بالأصوات والأشكال التي احتوتها الذاكرة من مضخات الكتب والمجلدات..
وفي حديث المرء مع نفسه، كثيرا ما يكون عتاب النفس أكثر حكمة وبلاغة، ألم يكن الصوت المنبعث من أعماق ساجدة أكثر منطقية من هلوستها، وجلبة حديثها؟!!
*****
الساعة الثالثة فجرا،،
غرفة ساجدة ما زالت مضيئة، وما تزال هي مبحرة في عباب الكتب، تتعاطى كنوزها وكأنها في مزاد علني لا يلتقي فيه إلا الأثرياء، لكن مزاد ساجدة خال إلا من العابرين في أرصفة الذكرى المبجلة،،
أبوعبيدة ابن الجراح،، أسامة وعبادة،، عمار وسلمان..
والأبطال أبناء العظمة ، وصناع الحضارة...

صوت طرقات على الباب :
- طق .. طق .. طق ..
ساجدة وقد أدركت أنها جارتها في الغرفة المقابلة من السكن الجامعي  :
- زينب تفضلي.
زينب معاتبة :
- كم الوقت الآن يا ساجدة؟
- لحظات يا زينب وسيقبل البطل، يطير طيرانا لينقذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألم به في ساحة أحد،، ألا ترين يا زينب أن وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصيبتا؟
ها هو البطل (أبو عبيدة) يا زينب يأخذ بثنيته حلقتي المغفر من وجنة الرسول صلى الله عليه وسلم ،، اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه أكبر يا زينب ، الله أكبر!!
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ساجدة يا عزيزتي: رفقا بنفسك، الصبح أوشك على الطلوع ولم تغمضي عينيك قط!
- لا تقلقي يا زينب، وسأرحل معه بحثا عن الحقيقة..
- أكاد أفقد عقلي، من هذا الذي سترحلين معه؟!!
ساجدة ، وبثقة:
- سلمـــــــــــــــــــــان.. سلمان يا زينب .
- أستغفر الله العظيم ، ومن سلمان هذا أيتها المجنونة؟!!!
- سلمان يا زينب، ألم تعرفيه.. سلمان الفارسي؟!!
- هل هذا أحد أساتذتك يا ساجدة ؟
ساجدة وقد عاد إليها بعض رشدها ، وبنبرة مثقلة ، متأوهة :
-لا .. يا زينب .. لا ..لا تكترثي بسلمان .. عودي إلى غرفتك  و ادعي لي بالثبات .
زينب بتذلل وخضوع :
-ثبتك الله، ورزقك عقلا راجحا!!!
*****
الـلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه أكبر.. الله أكبر ..
نداء الفجر يشق المدى ، يرخي بدفئه الحاني على شرفات الآمال التي تلونت بلونه، هذا النداء كان يعني لساجدة أنه انبلاج لصبح جديد قد يكون صبحها  الذي تنتظره... وقد لا يكون هو...
تهم لإيقاظ صاحباتها في السكن الذي تسكنه.. وكلها أمل أن تنكشف محنة العقل اللاهث وراء الحرف المسكوب من عصارة مرة من التفكير، والسعي، والخبرة، والدربة، علها تتوازن، وعلها تصل إلى فهم حقيقي للأشياء من حولها...



















(2)

الثامنة صباحا..
لحظة البدء الحقيقي لسلسلة من المتاهات الغائرة في الدرك الأسفل من محيط الإدراك لدى عقلية ساجدة المفبركة بالأحداث والوقائع عبر أزمنة مختلطة ، وأشخاص لم تتمكن من إفراغ خيالها من آثارهم المتمكنة في ساحة المواجهة الشعورية بين الحلم والواقع.. بين الأمنية والخيال..
الثامنة صباحا هي باكورة اليوم من محاضرات ساجدة للسنة الثانية من وجودها في الجامعة المختلطة في العاصمة.. تلك المحاضرات المتباطئة حينا والمتسارعة  حينا كما تستشعرها ساجدة، في حين أن الوقت هو  هو لا يتغير إلا بمقدار الشرود والحضور مع الآخرين..
ينتظم الجميع على مقاعد الدراسة بانتظار الأستاذ أمين الذي كثيرا ما كان يثير حفيظة ساجدة الثائرة المتمردة..
لكنها –وكعادتها-ما تزال تتعاطى بينها وبين داخلها أحداث فصول الكتاب الذي فرغت منه قبل بدء المحاضرة بقليل..
مشهد الشرود اللاواعي  عند ساجدة – كما حدث بينها وبين زينب –يتكرر في كل المحافل التي تحياها، فليس للبشر حرمة عظمى في استبقاء كافة معاني الحضور الذهني بينهم..
لا بأس لدى ساجدة أن تغيب الروح وسط كم هائل من الناس؛ لأنها على يقين أن الجميع يختلفون عنها، وهي الوحيدة من بينهم من تَحْمِلُ على الكراهةِ عقلا مزدوجا لا يحق له أن يتواصل مع أصحاب الوجهة المتفردة، والمنطق الموحد!!!
يبدأ الأستاذ الفيلسوف في إلقاء محاضرته النفيسة من نوعها، مجتهدا في إنهائها على أكمل وجه، وساجدة ترقب التغيير في كل مرة فلا تفلح، وتخاطب نفسها في لحظة شرود عن الأستاذ وطلابه بتهكم:
تعليم تلقيني ممل ، ليس إلا تكريسا لعادات وقيم هزيلة، وقد أخرج منه عينة مشابهة لجدتي،، لا فرق !!
تلتقط خلايا ساجدة الحسية الحاضرة الغائبة جزءا من نفائس الأستاذ أمين حين يجيب على أسئلة إحدى تلميذاته السافرات عن حكم قتلها للنملة وهي محرمة!!
كان جوابه:
لم ترد النملة في حديث من أحاديث حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يشير فيه إلى جواز قتلها، لذلك ومن باب التورع يا ابنتي  لا تمسيها بسوء..
تثور حفيظة ساجدة حين تحس  أن  مسؤولية الأجيال  ترمى كما ترمى القمامة في أكبر حاوية مهملات، إنها حاوية الاستهتار والعبث..
تستأذن ساجدة في الحديث لتقول :
ذكرتني يا أستاذ بالرجل الذي سأل ابن عمر عن المحرم يقتل الذباب! فبادره ابن عمر: ممن أنت؟! قال: من أهل العراق. قال ابن عمر: ها .. انظروا إلى هذا يسأل عن دم الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!
الأستاذ وقد بدا غاضبا:
أفصحي يا ساجدة عن وجه الشبه!
ساجدة بلا اكتراث :
عذرا يا أستاذ .. العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة!
الأستاذ يصفق ناقما على ساجدة وقد هم بمغادرة القاعة:
بوركت يا ساجدة على هذه المداخلة وسأترك لك مكاني حتى تقومي بالمهمة!
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتهرب فيها الأستاذ أمين من ثرثرة ساجدة ، ومشاكساتها التي تنبئ عن فكر ليس بالهين على المرء الفكاك منه..
ما إن يترك الأستاذ قاعة الدراسة من الباب الأمامي، حتى تتركها ساجدة من الباب الخلفي لتطوى صفحة جديدة من مغامراتها الجدلية بين زمنين مختلفين في المعالم ، والوجود ، والأغيار ...
تهم ميساء إحدى زميلات ساجدة  المقربات بتتبع خطوات ساجدة المتباطئة وكأنها على وشك التقهقر ، تقترب  ميساء من ساجدة وتجعل من جسدها متكئا تتكئ عليه، تُجلسها كعجوزٍ شارفت على الستين في مقعد من مقاعد استراحة الطالبات القريبة من قاعات الدراسة..
ميساء الآن  تستعد لمواجهة  قاسية أمام ساجدة رغم أنها تدرك أن الأخيرة الآن على وشك الإغماء ..
ميساء وقد استحوذت عليها الحسرة:
هل تناولت طعام الإفطار يا ساجدة ؟
ساجدة بنبرتها الساخرة المعهودة :
احتسيت فنجانا من الشاي .. وكفى !!
-قاتلك الله يا ساجدة! ألم يمنعك الطبيب من هذه المنبهات اللعينة التي تحتسينها كما تحتسين الماء؟!!! أم أنها أشربة محببة إلى صلاح عبد الصبور وزمرته؟!!
لم تكد ساجدة تسمع بعبد الصبور حتى  تمتمت بأبياته وهي في حضن الوهن :
... وثوى  في جبهة الأرض الضياء ..
ومشى الحزن إلى الأكواخ..
تنينٌ له ألف ذراع ..
من أذان الظهر حتى الليل ... يا الله
في نصف نهار...
تخرج ميساء مرآة فضية من حقيبتها الناطقة بالأنوثة المحتشمة.. فتواجه بها ساجدة الغائبة في مهزلة التفعيلة عند عبد الصبور كما تنعتها ميساء ، فتقول في حسرة:
كم لك من العمر يا ساجدة؟!
ساجدة مروعة من مهاجمة ميساء لها:
واحد وعشرون ربيعا!
-أمعني النظر يا ساجدة في صفحة المرآة، هل يوحي لك هذا الشحوب، وهاتان العينان الغارقتان في بحور الحزن والأسى إلا بعجوز شمطاء؟!!!
هل يوحي لك هذا الوجه المصفر، وهذه العروق الملونة بشيء إلا بضرب من الغباء اسمه الإهمال في الصحة؟!
كيف تستطيعين المقاومة ياساجدة وأنت بهذا الحال.. قولي بربك علام تعيشين؟!!

كان وخزا جارحا ذلك الحديث في قلب ساجدة، وكانت ردودها متباعدة.. تحاول أن تستتر بالشعر، لتهرب بعيدا عن ميساء وتخوفها العجيب.. فتتمتم:
أعيش على حفيف الشوق
في غابات زيتوني..
وأكتب للصعاليك القصائد
سكرا.. مرا..
وأكتب للمساكين..
وأغمس ريشتي في قلب قلبي..
في شرايني ..
ميساء وقد جن جنونها:
- توفيق زياد ثانية يا ساجدة؟ بالطبع يستهويك ، خاصة لأنه يتحدث عن الجوع والحرمان .. عودي لرشدك يا ساجدة ، لا تتقمصي أدوار من تقرأين عنهم في الكتب ، فظروف أقدارهم مختلفة تماما عنا .. إن كان قدرهم أن يموتوا في سبيل الله ، فقدرنا نحن أن نحيا في سبيل الله ...
... ساجدة تحدق في ميساء ، ولا يزال طيف توفيق زياد وأبياته تحاصر الشعور :
نزرع الأفكار كالخمير في العجين..
برودة الجليد في أعصابنا..
وفي قلوبنا جهنم الحمرا..
إذا عطشنا نعصر الصخرا ..
ونأكل التراب إن جعنا .. ولا نرحل ..
ميساء:
 – لماذا ياساجدة ؟!  لماذا نعصر الصخر وبيننا ماء قراح .. لماذا نأكل التراب وبيننا الطيبات .. لماذا نقبر أنفسنا يا ساجدة قبل أن يتداركها الأجل ؟!!!
ساجدة وقد تعاطفت مع ميساء التي أبدت استسلاما :
-ميساء يا حبيبتي ، تدركين تماما أنها آهــــــــــــــــــــــات  امتطت صهوة الحروف فخرجت.. وما هي إلا قطرات بللت لهيب قلبي الذي أشعله الأستاذ أمين ، وتلميذته السافرة..
ميساء وكلها عتب :
-هكذا أنت يا ساجدة .. تعزفين بأوتار التحدي على أخطاء الآخرين..
نخجل من أنفسنا كثيرا حين تواجهين الكبار كأنك منهم ، ونظل نحن صغارا .. نتراجع إلى الوراء ، وقد اضمحلت ثقافة الحشو في مخزوننا الفارغ...
-حاشا لله يا ميساء ، بالله ..أحسني الظن  في أختك ، إنما أردت البيان !!!
-البـــــــــــــــــــــــــــــيان .. ها..
     متشتتة كعادتك يا ساجدة ، تنظرين إلى الحقيقة بمنظار قد أعطبت عدسته الأخرى ... وحين تتحدثين نظنك قد بلغت طور الكمال البشري ... في حين أنك صغيــــــــــــــــــــــرة .. صغيرة جدا ...
-صدقيني يا ميساء ما قصدت الإنكار على الأستاذ أمين بعينه ، أو تلميذته المستهترة ، بل قصدت الإنكار على اتجاه غدا سائدا بين الناس .. يدققون في الصغائر ، ويشغلون الناس معهم بالتوافه ، في حين أنهم يضيعون الأمور الكبار!!
-الأولويات  إذن ؟!!
-تماما .. يا ميساء نحن بحاجة إلى أن نفقه أولوياتنا.. وندرك مراتب الأعمال من أجل أن نهذب المفرق.. ونلم الشعث في فكرنا ومناهجنا العقيمة.. فنقدم ماحقه التقديم.. ونؤخر ما حقه التأخير..ونتشدد في ما شدد فيه الشرع.. ونيسر فيما يسره ؛ لنحد من الغلو والتفريط ..
-صدقت يا ساجدة ، وأعترف لك بالغلبة.. لكن ماذا عن الموازنات ؟
ساجدة وقد تفرست أن ميساء انسانة مليئة بالمفاجئات :
-أتقصدين "فقه الموازنات"؟!!
-لا أظن يا أستاذة ساجدة أن جملة خطيرة كهذه قد أخطأتها سهامك!!
ساجدة كمن يريد أن يدس عيبه تحت البساط:
-ما الذي تنوين الوصول إليه يا ميساء ؟
-قد لا أكون  بلغت مبلغك من الثقافة ، لكنني أقرر أنك أولى الناس بفقه الموازنات ، وصحتك التي ليست على ما يرام هي أقوى دليل ..
ساجدة وقد عادت لاستهتارها المعهود :
-إذا انصرفت نفسي عن الأكل لم تكد
                                                             إليه بوجه آخر الدهر تقبل
-كفي عن هذا الهراء ..
     فالشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة
                                                         أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
     أستطيع أن أقول إنك قد قسمت قسمة ضيزى بين ما تقرأين وبين ما تستوجبه              هذه القراءة ، فلقد حفظت عن ظهر قلب أن من فقه الموازنات أن نقدم الضرورات على الكماليات .. كما حفظت أن النفـــــــــــــــــــــــــس تأتي بعد الدين مباشرة في الضرورات المتفاوتة.. لكن المسافة تمتد كثيرا بين المخزون الثقافي الذي تملكينه  والتطبيق الواقعي السلوكي – فيما  يخص صحتك –كطول المسافة بين العاصمة وبلدك الممتد في أقصى الشمال.. ومن عجب أن أهل الشمال قد يكونون أكثر ثقافة لكنهم مع ذلك أزهد الناس في المطابقة..
ساجدة بابتسامة منهزمة تحاول أن تراوغ:
-رفقا بي يا غالية ، ألم نحفظ معا الموازنة بين المفاسد بعضها و بعض؟!
     ألم نحفظ القاعدة التي تقول  بتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى؟!
ميساء في شدة وتحسر:
-ربــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاااااااه.. أي مراوغة هذه ؟!!
     أضرر أدنى أن تقتلي نفسك بسبب هذه الكتب ياذكية؟!
     وأي ضرر أعلى تقصدين ؟!!
-هوس القراءة.. يا ميساء إن لم أدفعه بالقراءة فإنني سأموت ..
-يا مجنونة:
 آلة العيش صحة وشباب                          فإذا وليا عن المرء ولى
-ميساء يا حبيبتي: أكبر فيك هذا الشعور النبيل الذي يزيدني منك قربا ، ويبعث في داخلي برودة منعشة تخمد حريق الكلمات .. وتنسج مهدا من حب لميلاد آخر لحروف تنشد التأثير في أجيال هذه الأمة...
-صاحب الرسالة يا ساجدة فيه من الأمانة ما يدفعه إلى تجشم الصعاب المحيطة من حوله حتى يبلغها إلى أهلها ، فإن ألقى بنفسه إلى صعاب يتصنعها بنفسه ، ويمهد لها الطريق فذلك هو الخائن بعينه..
ساجدة وقد تصاعدت زفراتها:
-إيه يا ميساء .. وأنى لجاهلة مثلي أن تعي رسالتها !!
الرسالة عهد يا ميساء قليل ما نفقهه ، إذ تغيرت لغة الخطاب ، وأضحت رموزا تتقاذفنا لتحليلات بليدة مملة ، القابض فيها على عقله كالقابض على الجمر بيديه.. واللبيب هو من يحيا بعيدا بعيدا حيث ممالك الطهر ، التي تعقد مؤتمرات رحماتها في ركعة بجوف ليل ، أو عبرة بسكون وخشوع ، أو خطوات تبللها دموع الشوق إلى بقاع لم تدنسها أنفاس الإثم ،حيث لا ضمير هناك إلا ضمير الأحياء الهاربين من الخطيئة..
ميساء محاولة تغيير وجهة الحديث إلى وجهة أخرى:
-هل قرأت صحف اليوم يا ساجدة؟
-نعم.. وقد روعتني تلك الحية الرقطاء التي أهدت للعصافير الخائنة أربعة ملايين حبة بر ، أودعتها من سمها القاتل ، نظير أن تتخلى العصافير عن شرعة الطيور إلى شرعة الوحوش...
-لم أذكر أني قرأت خبرا يذكر الحيات ، والعصافير، والوحوش في صحف اليوم ..
      أخشى أن يكون هذا الخبر ضرب من طلاسمك المعهودة يا ساجدة!
-ها ! طلاســــــــــــــــــــــــــــــــــم ؟!!!
      وهل ما ترقعه وكالات الأنباء إلا طلاسم ؟!
      أطلاسم أن أسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، تماما كما تتعرى الحقيقة           لحظة الاكتشاف ؟! أليس من المخلوقات من تشتهي تجربة الافتراس من جراء شذوذ في وداعتها، وتتلذذ بجيفة الآخر وقد أنشبت أظفارها في خاصرته ؟!!
أطلاسم أن نعي كواليس لعبة السياسة القذرة حيث لا تحلو القرارات إلا تحت الطاولة؟!! أطلاسم أن نكشف الأقنعة المزيفة ، وأن نرش بيقظتنا الطلاء المغشوش ؟!
-لقد أثرت حفيظة البركان المسجى في أعماقك أدري .. وأدركت إشاراتك ، وما خلف تشبيهاتك فهوني عليك ، فلن يستعبد السهل الجبل.. ولنا رغم هذه الانكسارات أمل في رموز النضال الشريف...
... تثقل خطوات ساجدة .. وتحترق الكلمات ثانية في مكامن وعيها .. فتهذي كعادتها بما يخفف عنها من قصاصات الشعر الذي عاش فيها زمنا .. وخطف منها روح الحاضر إلى أرصفة تختلط فيها الأزمنة...
أسمي السراب نكوص الحقيقة والوهم..
أسمي النكوص خرابــــــــــــــــــــــــا ..
وأطرده من سرابي..
أسمي البداة مخاض البلوغ..
وأزعم أن الغزاة احتمال وحيد..
أسمي التواريخ أشخاصها
أسمي الطغاة خلاص الضحايا
أسمي النبوءات صرخات عشق السماء لآلامنا..
أقول الكلام المغمس بالماء كي لا أقول
كأن الرسالة تعشق
صوت الرسول...
إلى هنا تنهار قوى ساجدة ، فتفقد وعيها ، وتغيب في غيبوبة لمدة يوم كامل لا تكاد تختلف كثيرا عن يقظتها ، ففي الحالين تبدو شاردة عمن هم حولها ، في حين يتحرق قلب ميساء ، ويتقطع ألما على ساجدة التي فقدت شبابها ، وعافيتها لسخافات الألم الذي عاث فسادا في قلبها الرابض فوق جمر الحروف.. فلا تملك إلا أن تحملها إلى المستشفى الذي أبحرت فيه مراكب ساجدة بين المرض .. وبين الدموع .. وبين الحروف الشاحبة...

(3)
وفي الصباح الذي انسلخ من تلك الليلة المضيعة من حساب الزمن البطيء ، تتسلل خيوط  الشمس الذهبية من زجاج  نافذة الغرفة التي ترقد فيها ساجدة ، فتفري غيبوبتها على قارعة الضوء ، كغشاء بال قلصته جزيئات الهواء في رحم الذاكرة ...
تتفتح عينا ساجدة الكستنائية كزنبقتين ناعستين أزعجها فضول الشمس ، تتلفت يمنة ويسرة ، فتحط عيناها عند شجرة الزام التي شقت رحلتها العلوية إلى السماء حيث نافذة ساجدة إحدى محطات السفر..
كانت الأشجار بلونها الأخضر تسكب في أغوار النفس الحزينة المتعطشة لغد أفضل للإنسانية كؤوسا من الارتواء ، تشرق بها العينان المكتئبتان ، ويتورد الخدان المضيعان في زنازين الأحداث السوداء ، حيث لا شيء إلا الدموع ...
فجأة تستسلم ساجدة لبكاء مختلط بالنشيج ، وصراخ داخلي يتراكم في دهاليز الأحشاء ، تتمنى وهي على هذا الحال ألا يدخل عليها أحد من الممرضات ، أو                                        
  الزائرين ، تتبعثر الكلمات فلا تجد حرفا تخرجه من مخرجه ليسلي حزنها ، حتى شجرة الزام بدت صامدة رغم لين أغصانها ، لا تكاد تتهادى عل دموع ساجدة تستجيب ، فتتراقص مع الزام لتسلو آلامها المتجددة..
تباغت طرقات من الباب جو ساجدة الملبد بغيوم المأساة:
.. طق .. طق
... تعجل ساجدة في مواراة دموعها المسكوبة من نبع لا ينضب ، فتمسحها بيديها ، لتوهم الطارق بأنها على ما يرام...
-تفضل !
.. إنها إحدى الممرضات تتقدم من ساجدة وهي تحمل باقة من الأزهار البيضاء التي تحبها ساجدة..
الممرضة بصوت دافيء وحنون :
-كيف أصبحت يا صغيرتي ؟
-أصبحنا وأصبح الملك لله.. والحمد لله ..
- أنت ساجدة حكيم ؟
-نعم
-هذه الباقة  من الأزهار جاءت باسمك ..
-أشكرك على لطفك
... تودع الممرضة باقة الأزهار على سرير ساجدة ، وتنصرف ..
يخطف البياض الذي انتشر في الغرفة أنظار ساجدة .. أغطية السرير.. لون الحائط.. المنضدة .. ملابس الممرضة.. والأزهــــــــــــــــــــــــــــــار...
فتتعشقه أكثر ، إذ هو وحي من غيب النقاء والصفاء في مستنقع هذه الأرض.. تتناول ساجدة باقة الأزهار المجدولة بغلاف شفاف وشريطة حمراء.. تشمها طويلا ؛ لتسكر برائحتها الزكية منافذ الحرائق التي أشعلتها الحروف المتوهجة .. تؤثر أن تغمض عينيها وهي تشم الأزهار ؛ لتغيب  عن هذا العالم المليء بالمفارقات المخزية..
وفي لحظة عانقت فيها ساجدة باقة الأزهار ، تسقط ورقة زهرية معطرة كانت  قد اختبأت بين أوراق  الأزهار قد خط أحدهم فيها بعض الكلمات دون أن يذيلها باسمه..
" إلى ساجدة حكيم
  .. طهـــــــــــــــــــــــــــــــور .. طهور..
  .. عافاك الله ولا أراك مكروهـــــــــــــــا..
  .. الحزن مظنة المرض.. والمرض مظنة العجز..
  والعجز أفيون الإنطلاق.. وإن الأمة حينما تعدم روحا متطلعة ، ونفسا تواقة ؛ فإنها تقيم لنفسها – بين الأمم – مأتما .. وعويلا.."
دمعة باردة من جراء تكاثف غيوم الحروف  تسقط على معصم ساجدة الذي زينه سوار نال أكثر من حريته في الحركة وهو في معصم  نحيل كمعصم ساجدة..
فتحترق حروف  أخرى .. وأخرى..
تشرع لدخانها أبواب الدموع..فتنهمر من ثقب الآلام عصارة شعرية ، تنطوي بها خلجات آثرت أن تستبرئ من  نفق ساجدة الذي  يبحث عن النهاية..
حزنت فلامني من ليس يدري
                                            كأن القلب يحزن باختياري
عبثا تحاول ساجدة اكتشاف صاحب الأزهار ، أو حتى تلمس دليل واحد على هويته .. من هو ؟! وكيف وصله أني في المستشفى ؟!  بل كيف عرف اسمي..وكيف استشرف باحات حزني وألمي ؟!
والأزهار؟!
لماذا أرسلها بيضاء؟!
أكان لكل هذا مغزى أراد به شيئا ؟!!
ورائحة العود التي أحبها والتي انبعثت من تلك الورقة الزهرية ، هل كانت محض مصادفة؟!!!!
أستغفر الله.. أستغفر الله !!
لحظة خشوع حملت ساجدة إلى حمى الاستغفار ، والتسبيح ؛ لتنفض عنها هذه التساؤلات المزعجة ،، تبدد هدوءها طرقات عالية عند الباب ، تدخل بعدها ميساء دون أن تسمع إذنا لها بالدخول ، دخلت متلهفة على ساجدة ، فارتمت في أحضانها تقبل خديها وجبينها ،، وتذرف الدموع الحارة وكأنها وجدت فقيدا لها منذ زمن ، أو كأنها استشرفت بحدسها أن ساجدة تعاني من مرض عضال ستدفع حياتها ثمنا له!
تبتسم ساجدة لما رأت من فرط حزن ميساء ، وقبل أن تنطق بادرت ميساء وهي رافعة بيديها إلى السماء :
- قاتل  الله الأدب ، وقاتل الله الأدباء جميعا.
ساجدة وقد علت ضحكاتها:
-على رسلك يا ميساء! ماذا جنى الأدب والأدباء لتصلهم سهام دعواتك ؟!
ميساء في أسف وأسى :
-ماذا جنوا؟! لقد نسجت عناكب حروفهم على أرضك النقية بيوتا من وهم .. ومن وهن ، وصيروا أوديتهم التي يهيمون فيها جسورا قد تدفعك إلى ....
-إلى ماذا يا ميساء ؟
     إلى الموت ؟!! لا تثقلي كاهل الأدب يا غالية ، ولا تأخذي الأدباء بجنايات أنفسنا ،
     الأدب كان صرخة الميلاد لذوات وأدتها المادة الصماء ، وأقبرت بريقها الحروب الكلامية، والأسلحة الجافة ، وهو الحجاب  الذي  نستطيع أن نواري به  تمردنا ، وثورتنا..
ميساء ساخرة مما سمعت:
-نعم.. نعم ..
    وهو الداء الذي يجعل  ذوي العقول المفبركة يقاسون ألمه طوال حياتهم ، وهو غاز مسيل للدموع يقضي على تظاهرة الصمود ، وهو ذو حدين إما (الحياة) وإما (الموت)
-سامحك الله يا ميساء !
ميساء وقد خطفت الأزهار البيضاء نظرها:
-دعينا من حديث الأدب الذي لا أفقه منه إلا بمقدار ما أحس من جمال وروعة ، وخبريني عن مصدر هذه الأزهار الجميلة ، وعن رائحة العود النفاثة هذه!
-هاك الأزهار ، وهاك هذه الورقة المعطرة ، وسأكون ممتنة لك إن عرفت لي صاحبها!!
ميساء تشم الأزهار بعمق ، وكأنها على أعطاف قصة حب موغلة في التجذر ، وتشرع في قراءة الورقة..
-كلام جميل .. ورائحة عود شهية .. وأزهار نقية ..
ساجدة وقد احتواها بعض المكر:
-ستكونين كاذبة إن قلت لي  إنك لم تقرأي شيئا في الرومانسية!
-إيه يا ساجدة .. أتراك نسيت ؟!
ساجدة وقد تغير لون وجهها:
-المعذرة يا ميساء ، تذكرت أنك كنت على وشك الزفاف لولا أن قاسم قد فك عقد قرانكما ..
ميساء وقد غابت في دروب الماضي التي تقاطعت أرصفتها مع أوراق الأزهار:
إيه يا ساجدة .. كانت من أروع اللحظات تلك التي جمعتني بقاسم على سنة الله ورسوله، إذ تشاكينا فيها هموم الدين ، وهموم الحياة القاسية، وكم تعاهدنا على المضي قدما في ترسيخ مبادئ  الدين في دقائق الأمور داخل قريتنا الصغيرة ، وكيف كان كل واحد منا يعبر عن حبه للآخر ، وأن الحياة مهما قست فلن تمس من قدسية هذا الحب ، وأن البشر مهما قربوا أو بعدوا فلن ينالوا من هذا الحب ..
تتأرجح مقلتا ميساء في بركة من الدموع ، ثم تحدق ثانية في الورقة:
-أتعلمين يا ساجدة أني لا أزال أحتفظ بخطابات  قاسم وهداياه التي أهداني إياها يوم قراننا .. ولا أسلو عبارته التي قالها لي يوم قراننا: "إن حبك هو البداية الذي انطلقت منه في هذا العالم"
-أواه يا ميساء .. إن من عاش معك لحظة واحدة  فلن يغيب عنه معدنك الأصيل ، وروحك الشفافة ، وإخلاصك الذي لا يفتر..
ولكن هل أدركت السبب الحقيقي الذي دفعه إلى تجاهل ذلك الشعور المقدس ، وتلك العهود الغليظة؟
-في البداية ظننت أن الأمر محض دعابة ، فلم أعره اهتماما ، إذ تراءت امام عيني كل أيام الحب التي عشناها معا ، بعدها هاتفني المهاتفة الأخيرة وقد سكب فيها من القسوة والجفاء ما دفعني إلى الشعور بأن حبه كان غفوة ونزوة من نزوات الشباب ، إذ قال لي إن سفره إلى الخارج لإكمال الدراسة يقضي بعدم إتمام هذا الزواج .. لأتفاجأ بورقة الانفصال .. وورقة صغيرة كتب فيها أن"وداعا إلى الأبد"..
.. تغرق ميساء في بحر من الدموع ولا ينقطع نحيبها إلا حين تتذكر أنها في المستشفى...
-هوني عليك يا ميساء ، ولا ترمي بقلبك إلى من تحبين  كما ترمين حجرا في بركة ماء ، فتعجزين عن استرجاعه ، فإذا أحببت فعلى هون ، وكذلك إذا  بغضت ، فربما يكون حبيبك بغيضا إليك يوما ما ،وربما العكس.. ومن أمثال قاسم  قلوبهم لا تتعاطى الحب إلا مع اللحظة الراهنة ، فحبهم تحكمه قوانين المتغيرات الهشة كما تحكم المادة حرية الحياة الخاشعة ..
-اعذريني ياساجدة جئت لأخفف عنك ألمك فوجدت نفسي أولى الناس بالمواساة!
-لا عليك يا عزيزتي ، إنني اليوم على ما يرام فلا تقلقي ، وأتمنى ألا تكوني قد أبلغت أهلي أنني في المستشفى ..
-لا لم أفعل .. اطمئنئ.. واطمئني أيضا أن صاحب الأزهار لا يحمل لك إلا الخير ..
-تتحدثين و كأنك توصلت إليه يا ميساء .. بالله عليك أفصحي ..
-أبدا ، إني لم أعرفه ، لكن توقيعاته في الحزن والمرض والعجز توحي بشيء من 
التعاطف مع عالمك الحالم  ، والمكلل بعناقيد الشعر.. كما توحي بحكمة ، ورجاحة عقل ، وفكر مهذب ..
- بالفعل  ، إن تلك الحروف تختلف تماما عن حروفي المحترقة ، المشتعلة نارا في أروقتي ، إنها كالنور مد شعاعه في ظلامي المستحكم ، وأحال الدخان عطورا تزف الجمال على أرض القبح ليتربع فيه كما تتربع قطرات الندى الباردة على أزهار الروض ناشرة في تلافيفها أريج الحياة ، وبلسما يحجبها عن شرارات الشقاء المتشظية من فوهات الانحدار و التردي ..
-هكذا يا ساجدة .. عليك أن تطفئي دخان الحروف المتعفنة  بما يخمدها ويخمد  معها كل الجراح .. وأتمنى أن أراك غدا في أحسن حال .. في أمان الله.
***
تذوب قوالب الشموع الملونة بأحرف  اللغة في طريق تعقب المستقبل ، الذي كان قد شق امتدادا من وحل اليأس و الفشل ، تبطنه حروف من أمل تارة ، ومن ألم تارة أخرى ،وتنشط فيه عبرات الحزن ، وترتخي فيه بيارق الابتسامة ، وتتعملق فيه سياط التقريع المتدافعة من أرصدة تلك الكلمات الثلاث : الحزن .. المرض .. العجز..
وتتدفق من قنواتها سيول توقظ السكرى ؛ لتموت الخفافيش تلك اللحظة ، وتغادر عناكب الجدران المتشققة بيوتها الواهنة ، فلا تبقى إلا اليقظة التي تثقل كاهل المريض إن كانت عبئا على العقل ...
قوالب الشموع شكلت ذرات لامعة تتراقص في الهواء كفراشات ظنت المنارة قمرا فشاكستها ، وداعبتها بلطف ؛ لتنوء بوحدتها بعيدا حيث الحروف القديمة التي بسطت تفردا معنويا قاسيا لنظرة قاصرة لهذا العالم لا تتعدى في مداها ثقب الإبرة ..
.. كثيرا ما تتشربنا رغبات جامحة بممارسة شيء نحبه ، لكنه يتعارض مع لحظتنا المعاشة ، ليس هذا إلا من وحي الشوق الذي يكتنف خيالنا الظامئ إلى ظرف صيره سعيدا ولو لثوان من ظروف الزمن البليد..
ساجدة الآن .. تولي خيالها شطر البحر الذي يعانق مدينتها السمراء ، ويصافح موجه شطآنها البراقة المرصعة بالأصداف اليتيمة ؛ لتهديه دموعها الحرى  التي استنكفت أن تهديها لأحد ، ومن كالبحر يضم قطرات دموعنا مع قطرات مائه؟!
لم تكن ساجدة تعيش في إطار ضيق ، تستحوذ فيه ذاتها جل التوجهات  ، بل كانت تمد عينيها إلى عذابات الكون التي أنهكته وأنهكتها ، فالحزن الذي تآخى معها لم يكن شعورا محببا إليها ، إذ طالما سعت لتلفظه وتلفظ سمه ، لكنها اكتوت به وشما يحقن في مقاومتها للمرض دوامات العنف ، والقتل ، والتدمير التي غرزت في معاقل الأمةالإسلامية  ، لم يتملكها شعور الإنتحار يوما ، لأنها فقهت أن الشريعة تحرمه أولا ، وثانيا لأنها تنتحر في اليوم آلاف المرات ..
جانبت الصواب في عجزها عن أخذ نفسها على محمل الإتزان الذي لم تتعاط قيمه كما ينبغي ، فتجدد النكبات التي ابتليت بها الأمة حال دون توازنها ..
كبرت ساجدة كثيرا فوق عمرها الحقيقي ،لكن كبر الانسان في ملامحه لا يعني بالضرورة أنه قد أصبح  ناضجا ، فطور النضج تشكله المتغيرات أكثر مما تشكله الثوابت ..
فساجدة محبطة .. والثورة في داخلها متوهجة .. تبحث عن التوحد .. وتبحث عن الهدوء .. لتقاوم بقلمها الفتي العدو الأخطبوطي الذي أذل الأمة الإسلامية زمنا ليس ردحه بالقصير...

(4)

اليوم الثاني لمكوث ساجدة في المستشفى كان يحمل في ساعاته ترقبا تتضارب فيه دقات القلب بشدة ،  وتنشطر من الأحرف انشطارات وهمية تسحقها أذرع الواقع ، فمصير الوهم الإنحباس في درك التوقع حينما تغمره الحقيقة  ، ومصير الحدس أن يحسم حينما تتناسل فيه المؤكدات  ، ومصير الظن السيء في شخص من البشر أن تحيله لمسات الخير إلى مركزية الإنصاف في دائرةالحكم على الآخرين..
تتهافت جموع الزائرات من طالبات  الجامعة اللاتي ربطتهن بساجدة علاقات متشابكة سواء في سكن الطالبات  ، أو في حرم الجامعة  ، أو حتى في نادي" قوارير" الأدبي للفتيات  ، والتي كانت  ساجدة إحدى المشرفات عليه ، تتلمس ساجدة  في أعين الزائرات شعور الشفقة الذي تكرهه ، لكن من يلومهن  وقد تفاجأن بجسد ساجدة متحللا  ، طريح الفراش ....
وجوه كثيرة متداخلة تروح وتغدو ، وتكتفي ساجدة بالشكر  مع ابتسامة صفراء باهتة  من صنع المرض ، كل شيء يبدو بلا ألوان إلا الأبيض و الأسود ، وكأن ألوان الكون غاضت في الدخان الذي تستشعره ساجدة بين رئتيها  ، الدخان الذي يتراكم في حقول المأساة الإنسانية ، فيطلي بالسواد صفحات الأرض  ، وعتبات السماء ...
وجه من الوجوه بدا مختلفا ، قسمات التناقض  توزعت بين المعالم  والملامح ، جبين قد تسطح من أثر السجود ، لكن أصباغ الكون قد انتصرت على الدخان الحاجب لرؤية ساجدة ، امتطت الحمرة الشفتين المشتعلتين ،  وتمددت زرقة عارية فوق العينين الكحيلتين ، وخدين تبعثرت فيهما بلا خجل الصفرة  ، والخضرة ، وليل طويل أرخى سدوله على الأكتاف  ، ونحر مشع قد أشرف من خلف الثقوب التي أحاطت بها فصوص لامعة تزيد النحر جمالا وإغراء..
وخلف اللحم البارد ، والتفاصيل المتعرجة ، ترفل ريح البخور المتحرشة من بعد لمن يشمها قسرا أو اختيارا ..
تصوب ساجدة مقلتيها نحو " ليلى " التي فاجأت ساجدة بزيارتها ، "ليلى" وليس غيرها  الطالبة المستهترة ذات الأسئلة الدقيقة في صغائر الأمور عند الأستاذ أمين ، والتي أثارت جنون ساجدة  بسؤالها عن حكم قتلها للنملة وهي محرمة ، في حين أنها سافرة متبرجة تغوي الشباب بزينتها..
ليلى :      حمدا لله على  أن قمت بالسلامة يا ساجدة .
ساجدة:   بوركت يا أخت ليلى .. ومن عجب أن تلتقي الأضداد !
-                     عفوا ،  كأنك تلمحين إلى شيء
أجابت ساجدة وعيناها يخفت بريقهما من فرط الألم الذي تحسه بين رئتيها:
-                     ذاك الوجه الفاتن .. وهذا الوجه الخريفي الباهت !
أن أقسى ما تعاني  منه المتبرجات  من مثلك يا ليلى هو أنها تحرم خلايا وجهها من (الأكسجين ) بفعل ما تصب فيه من مستخلصات الكلاب و الخنازير ..
ما تكاد ساجدة تفرغ من نقدها اللاذع لليلى حتى شقت السكون بسعالها المرتفع الذي أرجف ليلى
-أأأ ح ح هـ هـ هـ
                      أأأ ح ح هـ هـ هـ                     
                     أأأ ح ح هـ هـ هـ
-                     ساجدة يا حبيبتي .. هل لي أن أساعدك ؟!!
تومئ ساجدة لليلى أن تسعفها بمحارم ورقية لإيقاف التدفق الذي يستعد أن ينطلق من رئتيها ..
تبصر ليلى نزيف الدم الذي تلطخت به المحارم فتكاد تسقط لولا تمساكها ..
فتتفاصح ساجدة قائلة في ألم:
-لا تخشي شيئا  يا ليلى ، أحرى للدخان إذا انتشر أن  تلفظه الأرض إلى أي منفى ، حتى وإن كان  في السماء!
اغرورقت  عينا ليلى بالدموع تحسفا على ساجدة التي بدت تتقلب بين السعال ، والدماء .. فتتبدد فتنة الأصباغ إلى براءة طفولية ، وملامح نقية تجر ساجدة إلى الحديث  رغم معاناتها في تلك اللحظة ..
-ما أعجب أن تنصب مادة الإغراء  والفتنة وهي من نسل إبليس في مادة الطهر والصفاء  و هي من تواقيع الملائكة..
- في كل منا يا ساجدة انسان تعرفيه وآخر لا تعرفيه..
-وهل بالضرورة أن يكونا متناقضين ؟!!
-هذه الأصباغ التي تزعجك لا تعدم من ورائها قلبا يحب الخير للناس جميعا ..
-والشباب الذين تفترسهم لعنات هذه الألوان البراقة ليسوا من الناس الذين قصدتهم ؟ وما الذي تجنيه أنت من حبك للناس إن خسرت نفسك ودينك؟!
إن جاهلية الأخلاق يا ليلى أضحت تتفشى في أوساط الشباب والفتيات  تفشيا خطيرا ، جفت عندها منابع الفضيلة والحياء ، واستفحلت محلها الرذيلة والفحشاء..
تقطع ساجدة حديثها بسعال يخلف وراءه تدفقا دمويا آخر مخيفا ، لتعود بعد انقطاعه للحديث مع ليلى..
إن الرجل يا ليلى مهما تقلص وعيه في نزوة عابرة يحيكها له إبليس  مع مومس من المومسات ، فإن نفسه تعاف أن تتبع تلك النزوة برباط مقدس أبدي!!!
ومن أسف .. أن فتياتنا تغريهن النزوات المخمورة ، واللذة التي تعقب  هذا السفور  اللعين ، لتفقد بعدها العفاف ، والشرف ، ولا تكون إلا كالبئر المعطلة .. ماؤها فاسد ، وأرضها عاثت بها الذئاب ، وولغت فيها الكلاب .
يخفت صوت ساجدة شيئا فشيئا  ، فلا تملك حتى أن تمنع نزيف الدم المتدفق ، وهي في غمرة تلك السكرات ، تعجب من ليلى  كيف أنها بدت متزنة ، لا تحرك ساكنا رغم قسوة ما كانت توجهه إليها من سهام  تقدح في العفة ، والستر ، وكيف فكت براءتها قيود الألوان المعتمة ، كالطفلة  الوديعة التي لا تفقه من كلام الكبار شيئا..
بعدها-ورغم المقاومة –تستسلم ساجدة  لغيبوبة ثانية تحت وطأة السعال الذي أحسته كالسكاكين الحادة تجرح رئتيها المتعبتين ، كما جرحتها سكاكين الحروف جرحا إثر جرح لن تفتأ دماؤها تثعب  منها إلى أن يشرق الفجر الذي يبدد حلكة الليالي الطوال ..
تغادر ليلى المستشفى حزينة كسيرة ، تحمل في جعبتها تساؤلات ساجدة التي اخترقت كل الحدود لتلقى مستقرها في صميم فؤادها ، كما تحمل شعورا بالشفقة على ساجدة خدرها وخدر خطواتها المتبخترة ، وأحالها قطعة مرتعشة كاد القلب فيها أن يبلغ الحنجرة ..
تبتلع أفواه الصمت الممتزجة بالرذاذ المتكاثف دمعا من أسقف المحاجر كل أجناس اللغات الملفوظة ، وغير الملفوظة ،وكأن الحروف كانت عود الثقاب الذي أشعل الحريق الذي سد منافذ الروح ، بغمامة سوداء تستعلي شحناتها على كهرباء الحس السارية في أوردة الكون..وتعبس في أوراق الزام المتفرعة على زوايا النافذة القريبة من السرير الذي يضم الجسد المحترقة أحشاؤه ، ولا تبقى إلا لغة السماء تجدد في الروح المتألمة حلاوة الصبر ، ويقين الثواب من وراء الغيب الناشر في غياهب الظلام أنوارا تبعث الحياة من جديد..
وعند المساء ..
وذات لحظة تمردت على سلطان الكآبة  ، حيث تبددت أعمدة الدخان في منافذ الفضاء ، وحيث تنشقت الروح هواء منعشا ، تستيقظ ساجدة من غيبوبة النهار  ، لتحس بظمأ شديد لا ترويه مياه الأرض  ولو اجتمعت .. لم يغب عن ساجدة سر الفراغ الذي بات يتضخم عند كل حالة إغماء تفقد فيها الوعي كلية  ، إنه ظمأ الروح .. وشوق الجوارح  إلى ركعات تبرد اللهيب .. وتوقف التعذيب .. وتبعث في النفس الرضا ..
ستبدأ حكاية الصلاة إذن .. وتنمو الحكاية في الأحداث المفصلة .. حيث لا شيء إلا الحب المقدس للذات العلية  التي حزنت من أجلها ساجدة  .. وابتسمت من أجلها أيضا .. وهي التي  قربت لها قرابين الكلمة والحرف .. وهي الذات التي حلمت ساجدة أن تسترضيها وتذكر الناس بها في زمن لا وجود إلا للعبث  المادي المضمحل والمقفر ..
هي وحدها لحظات الوضوء التي يستيقظ فيها بريق عجيب في محيا ساجدة ، فقطرات الماء التي تتدلى من أهدابها الطويلة توحي بغور قد سكنته الطهارة منذ زمن  ، فكانت الأهداب رسولا رقراقا  يطمئن له الرائي ، ويتمنى لو يديم النظر ، ويحدق في نافذة الأغوار المستترة..
وصفحة الوجه تبدو بالوضوء  صفحة مغايرة تماما للشحوب المعتاد   والصفرة المتشعبة إذ يسفر الجبين عن سماحة وبهاء ، ويتبلج من بين قسمات المحيا الطاهر جلال السكينة  و الرهبة .. ليكون الخشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع ..
تدخل ساجدة في قضاء الصلوات التي ضاعت وهي في رهن غيبوبتها .. صلاة بعد صلاة .. ترشف من أزهار السور رحيقا ايمانيا  عذبا يستولي على قوى الإحساس لديها ..
ففي حكاية الصلاة .. لا مكان للدخان المنبعث من الرئتين المحتقنتين .. ولا مقام لنفاثات الشعر .. أو لضروب الفلسفة...
إنه المقام الجليل .. والحضرة القدسية .. والنفس المعطر بشذى التكبير .. والتعظيم .. والدعاء ..
إنها مفتاح تتفتح عنده أبواب السماء  ، ويبتدر منها الملائكة ما شاءوا ..
إنها محط ركاب المذنبين  حينما يجرون خطاياهم وقد شقوا بها .. إنها مصابيح البصيرة .. وامتداد البصر .. إنها السعادة الأبدية .. وطوق النجاة.. إنها شفاء الصدور .. وكوثر الايمان..
" .. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له.."

تعب ساجدة  من كؤوس الخشوع استدراكا لما قد فات ، لتفك أغلال رئتيها المتفحمتين ، ولتنسف أبخرة اليأس ، ولتخضر الواحات بعد الهجير الذي ألهب قلبها ، فطمس نوره ، وعجت به صنوف الآلام ، تفطرا على حال الأمة المطعونة بخنجر الهزيمة الشبيهة بالخلود..
"اللهم اجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في دار  العلى ، وحطت همم قلوبهم في دار التقى ، حتى أناخوا برياض  النعيم ، وجنوا من ثمار رياض التسنيم ، وخاضوا لجة الشرور ، وشربوا بكأس الرحيق المختوم ، واستظلوا تحت ظل الكرامة الظليل "
" اللهم لا يهزم جندك  ، ولا يخلف وعدك ، سبحانك، اللهم اجعل لي وللمسلمين من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ومن كل بلاء عافية ، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه ، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ، ونعوذ بك من شرورهم"
بهذا التضرع .. وبهذه الابتهالات .. تفرغ ساجدة  من صلاتها-سلسبيلها النقي  ومرتعها السخي –بكل تفاصيلها التي تعجز يراعات الكون أن تنقش حروفها  .. وخطوطها .. ورسومها .. حسب ساجدة فيها أنها قد ارتوت بعد عطش قاتل أرهقها .. وكاد أن يقتلها..
*****
وفي عجز ساعات الليل .. تتصدر أحداث المستشفى مخيلة ساجدة ، التي بدت كالمرايا تتشكل من خلالها الصور والمضامين .. باقة الأزهار.. والكلمات الثلاث .. ميساء وقلبها المتصدع.. ليلى وقلبها الملائكي رغم شيطان السفور وشراكه الملغومة..سيول الدم التي تدفقت من الأحشاء المهجورة.. قوة الصلاة والتشافي الذاتي الذي تؤمن به ساجدة أكثر من الكبسولات والإبر المغروزة هنا وهناك..
"أثمة شعور آخر أحرى من الحزن أن يتملكنا ؟"
هكذا قفز قلب  ساجدة من شعور اللاجدوى إلى شعور الضرورة وشعور الواجب والفريضة.. فلئن كان  الحزن نهرا يتغلغل فينا رغما عنا ، فإنا نحن من يصنع له روافده ، وعندئذ يكون باستطاعتنا عقلنة هذه الروافد ؛ ليكون الحزن شرارة التغيير ، والإبداع ، لا مظنة للعجز والمرض كما وقع صاحب الأزهار..
باتت ساجدة تنقب في مناجم الانطلاق ، مقتحمة تكتلات الماضي ، وإخفاقات الذات المكتوية بالإخفاقات الآنية للأمة، وقد صعدت في سلم النضج درجة مفروشة بالشوك الذي قد يدمي أقدام الترقي  إن لم تحث سيرها في الصعود نحو القمة..
بيد أن الأعماق السحيقة التي ترجع دموع الضعف   والنقص في صداها صوتا بكائيا لا تزال تستجدي الغيث الذي سيسقي الغراس قاطبة من بعد الندى الذي بل بعضها ,, وما كفــــــــــــى ...
*****
(5)

تنقضي الأيام  التي قضتها ساجدة في المستشفى ، ورغم أنها تماثلت لشفاء له ما يعقبه ، فإن الأطباء لم يفصحوا عن حقيقة المرض الذي ألم بها ، مكتفين  بقولهم إأنها إلتهابات حادة في الرئتين ، وكتبوا لها علاجات تقطع ساعات السعال المتواصلة ، وتوقف شلال الدم المتدفق مع السعال..
تعود ساجدة إلى مقاعد الدراسة كباحث أمسك بطرف خيط الحقيقة المضيعة في حطام الحزن الذي شل الحياة المتفائلة زمنا ، فسير بالأقدار المسكوبة من قضاء اللوح سلفا جيشامن الهموم فتت  معاقل الراحة والبهجة ، ليظل سؤالها " أثمة شعور آخر أحرى من الحزن أن يتملكنا؟" حاضرا في كل محفل ، فصنع فيصلا يفصل بعمقه  بين الظلام والنور فيما كان ، وما هو كائن ، وسيكون..
فالعقل إن وجه وجهه شطر قبلة مطاطة لزجة فإن طوافه لا يسمن ولا يغني من جوع .. و لا يشفي من ألم .. وارتقاب مضن .. فتتضخم عندها مناسك التقرب ، في حين أنها لا تلبث أن تثقبها إبر الفطرة السليمة النقية الماثلة للإنحراف مثول الفارس في ميدان النزال ا ، فبين الإقدام والصمود ، وبين الإحجام و القعود قوة وهمية تباعد بين الأقطاب المتنافرة بعد المشرق والمغرب ، لتنتصر قيم الوسطية والإعتدال الرافضة للتهويل والمبالغة في استشراف معاني الغد بمنظار معطوب ، وسواعد مرتجفة ...
... أوشك الحزن أن يبين من ساجدة بينونته الصغرى ، وهي في طريقها إلى قاعة المحاضرة ، فتتحلق رفيقات الدراسة حولها يهنئنها على الشفاء ، وتبرق أسارير ميساء أيما إبراق وهي تبصر ساجدة صحيحة معافاة.
 ترتسم في شفتي ساجدة ابتسامة  خجلى تزيد الملتفين حولها حبا و إعجابا ، ولولا الحياء لبادرها أيضا زملاؤهاالدارسون  بعبارات التهاني بالشفاء والعودة ، فغيابها خلف فراغا كبيرا في نفوس الجميع بلا استثناء  ، فهي من شقت السكون المطبق ، وأثارت الفضول ، وألهبت العزائم للذود عن حياض الدين الذي  رمته علمانية الجهل بتهمها السقيمة ، وادعاءاتها السخيفة ، فكم من تدارس كشف عن ظلمة ،  وكم من محاورة صيرت أرض النقاش ذلولا ، وكم من مشاكسة خلفت اعترافا بالسمو والغلبة..
ينتظم الجميع في المقاعد ، بعد أن باغتتهم حمحمات الأستاذ سعيد الذي بدوره هنأ ساجدة على خروجها من المستشفى ، وبارك لها مثابرتها على الحضور رغم أنها ما تزال بحاجة لملازمة الفراش...
تقلب ساجدة بصرها ذات اليمين وذات الشمال علها تلمح ليلى بين الجموع ، فيرتد بصرها خاسئا وهو حسير... لا أثر لليلى ... فتتزاحم في مخيلة ساجدة عشرات الاستفهامات ، كلها تستفهم عن ليلى ، وعن سر غيابها..
هل تكون مريضة ؟!!
أم أن حديثي معها قد شق أخاديد من حيرة وضياع تستعصي على فيوض الالتئام؟!
أتراك أسأت يا ساجدة من حيث أردت الإحسان .. وسهام إساءتك اخترقت حدود ليلى حيث المجهول المتواري بلفاف السفور البغيض؟!!
أثمة فلسفة ألطف وأحنى في الدعوة والنصح غير الحماسة العمياء تتخبط بعصاها المكسورة ، ثم لا ترجع  بشيء؟
أتراني حطمت زجاجا فمشت عليه ليلى راغمة وهي الآن تداوي جراحها؟!!
آآآآآآآه
كيف يصير الإشفاق ظلما...
وكيف يصير الحب إساءة وتجريحا...
آآآآآخ متى تكبرين يا ساجدة  وتقتربين من البعيد.. وتلمسين بيديك مصباح الحكمة وتهتدين السبيل ؟!
قلب ليلى أنقى من الماء ، وحديثها أعذب من الحداء .. فأين ضاعت قوة الحب المتمركزة في داخلي تجاه من هن مثل ليلى؟
أواه !!
كيف غطت معاني الكمال في سبات عميق من حيث لا أدري ، وكيف تصرمت أرصدة الروح  ومضت ولات حين مندم ..
استسقي لروحك يا ساجدة عل السماء تستجيب ، فتهديك غيثا تبرأ منه العلل ، وتستقيم به الأوجاع ..
استسقي .. فلقد بليت تلك الروح ، وغدت كالثوب الخرق ، فأطاحت برأس مالك ، وهشمت حصنك الواقي ، وباتت على شفا حفرة من السقوط..
....انساقت  المعاتبات من ساجدة لنفسها زمرا  ، وكأنها في موقف الحساب ، فأوجست خيفة ، واستجدت الغيث أكثر وأكثر.. فاستجابت لها عيناها قبل استجابة السماء .. ففاضت بالدموع .. لتستنشق الروح رائحة الدمع .. وتبل ريقها بطعمها المالح..
آثرت ساجدة أن تذرف دموعها بعيدا .. حيث تكون وحيدة ، وقد شعرت باحتراق جديد في داخلها ، يتخلله شعور بالألم ، مثله كمثل إطفاء عود سيجارة في قلب متبعثر.. فتنتشر أعمدة الدخان ، لتعدم ذرات الهواء النقي ولتفجر ينابيع الدم الهادئة..
تطلب ساجدة من الأستاذ سعيد الإذن بالإنصراف ، فوجودها كالعدم ، بل قد يزيدها ألما طيف ليلى الذي يراودها بين الفينة وأختها ..
تنقب ساجدة عن بقعة خضراء منعزلة  داخل الحرم الجامعي علها تتدارك نفايات الأحشاء النتنة من جراء المرض عوض أن ترمي بها أمام الملأ.. فتدنو من غابة النخيل المتوسطة لباحة الحرم ، فتلفظ فيها السموم المتراكمة فوق رئتيها .. تلفظ ,, وتلفظ.. وتلفظ.. وكأن السعال ينزع روحها- المتشبثة برجاء الغيث-نزعا شديدا ، يطبع في كل قطعة منها جرحا تختلط دماؤه بالدخان ، فتتعذر الرؤية ، وتبكي البصيرة ، ويئن الفؤاد..
 بعدها تهدأ أعماق ساجدة الصاخبة وهي تصغي إلى بلبل يصدح  على مقربة من جراحها الطرية ، وكأن نشيده لامس أسطح الجراح فصاغ منها لحنه ، واستلهم من حزنها حزنه..
فتنتفض ساجدة انتفاضة المتذكر لشيء مضى ، فتحدث نفسها :
"الحــــــــــــــــــــــــــــزن ثانية"
ألم تبرهن لك الأيام والوقائع أن شعور الحزن شعور لا جدوى منه في مثل هذه الأحداث وهذه المنغصات ، إن كان يقذف بهمتنا وراء المواجهة ، فنستدبرها ، ونوليها الظهور..
دونك الحزن يا ساجدة .. اقذفيه مع تيارات السعال المتدحرجة  ، أوأحرقيه مع الدخان ليطفو فوق الشعور ويغدو هباء ، انتشلي الذي هو أبقى يا ساجدة من أوحال الفناء فالغد قادم ، والرجاء ما زال يتأرجح بين يقين الوقوع ، وبين الصبر والتسليم بالقضاء . فالغيث إن باشر بقطره أرضا غرقت في جراحها وآلامها  ، فإن  نتاجه لا يعدو أن يكون هشيما تذروه الرياح...
*****
تنهض  ساجدة وقد استودعت غابات النخيل شيئا من عذاباتها ، قاصدة سكنها الداخلي ترمي فيه العذابات المتبقية ، وفي خطواتها المتباطئة تغض ساجدة من بصرها إلا بمقدار ما تهتدي به طرق الجامعة الطويلة ، لكن الواقع المؤسف يأبى إلا أن يقتص من قلب ساجدة الذي اختار أن يعاني ألم المخالفة ، ويكتوي بنار تنكب الشباب درب الهدى..
وجوه الشباب من طلبة الجامعة هي أيضا عذاب آخر لساجدة تماما كعذاب السفور والتبرج.. إذ تظهر للعيان ناعمة ملساء ككف العذراء..
فمنابت اللحى ردمتها معاول النزع والتقطيع ، فألغت نقاط الفرق بين وجوه الشباب والشابات ..
وكأن شبابنا راهنوا على إعدام السنة النبوية ، وأقسموا على المخالفة في الصورة وجوهرها الذي تنازعته أهواء المدنية  وبات كلا على الأمة لا يأتي بصلاح...
تعود ساجدة فتسلي نفسها بحروف من شعر خلقت من وهج الحزن والألم ، لأن الشعر هو الذي تفرد بكشف معاناة ساجدة المخبأة خلف قضبان الكلمات ، وكأن الشعراء استصنعوا مشاعرهم من مادة الحزن الذي تتشكل في منعطفات ساجدة بصورة تلقائية أملى عليها عهد ساجدة القديم في عالمها المعذب..
... وأقرأ في دربي وجوها كثيرة
ففي بعضها خير.. وفي بعضها شر
وأسمع أصواتا .. فصوت مغرد..
يسر به قلبي .. وصوت به نكر..
رحلت على درب الأنين ولم ازل
فكم مر بي  عام .. وكم مر بي شهر
وأمتنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا!!
تمشي على غير منهج ..
فليس لها نجم..وليس لها بدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تترنح ساجدة في ممشاها وكأنها على وشك السقوط ، إذ غدت قاب قوسين أو أدنى من باب غرفتها .. تفتح الباب لترتمي على سريرها المسجى بالمصنفات والدواوين .. فيختلط كل شيء .. الكتب بالدموع .. الهواء بالدخان.. والفراش بالسعال.. لا حيلة لساجدة الآن إلا أن تبكي .. فها هي –كما تبادر إليها- على مقربة من الموت .. وعالمها لم يزل مقطب الجبين ، يشكو قسوة الأيام.. وموت الضمير..
دونك الحزن ياساجدة..
دونك.. دونك..
وفي ثورة شرسة ، ألقت ساجدة برزمة الكتب التي تحملها بين يديها بقوة على الأرض وكأنها ألفت طبع الإلقاء والقذف خارج محيط الذات المحترقة ، لتبرز لها الورقة السحرية لصاحب الأزهار، لتطفئ الدخان ، وتوقف السعال ، وتقطع البكاء.
... الحزن مظنة المرض..
    والمرض مظنة العجز ..
والعجز أفيون الإنطلاق..
صوت من داخلها أقحمته تلك الكلمات ، ظل يبارز ثوران ساجدة ، غضبها ، وبكاءها، مرددا:
الحزن... مظنة... المرض
والمرض... مظنة... العجز
والعجز..أفيون... الإنطلاق
وهي- رغم الإستسلام – تتلذذ لسماع هذه الكلمات المتوهجة ، وتبتهج لخريرها على مسمعيها ، فتختلج مشاعر عذبة تفك قيود الفجر ، وتهيئه لإشعاع النور وبثه في الأرجاء الدامسة...

(6)

ترصد ساجدة أعراس الشموع ذات رؤيا من عبق.. فجنس الشموع ، وساجدة –لحظة ولادة الأمل من رحم النكسات-شيئان متجاوران ، اشتعال واشتعال .. ذاك الشمعي من ذوبانه يولد النور ، وذاك الساجدي من ذوبانه  ينبت الخير ، وتنمو أزهار المحبة  ..
ساجدة تحتاج خليلا أقرب من اليراع القاطن أناملها منذ زمن ، يختصر المسافة بينها وبينه في همسة خاطفة ، فهي تعشق قدسية القرب لأنها عانت من قسوة الغربة ،..
فتهب رياح باردة من شرفات  الجنان تحمل سحبا مرسلة.. محملة بابتسامات الملائكة  تتحرك لتسكب دموع  الأنبياء .. تبلل الشموع .. تنطفيء ..تنكفأ على نفسها بهدوء .. ونور قادم من الأفق المشفق  على الروح المحترقة بقروح البؤس فيسطع في وجوه الحزانى ..
النور القادم هو النور الذي لن يخفت أبدا ، ولن تقض مضجع هالته أبخرة الدخان السامة ، وجمرات الدم الذي أفحمته  إيحاءات الحروف حينما يكون الحزن الفتاك هو مبعثها و ساقي عطاشها من الأشقياء الزاحفين من ألم إلى ألم أكبر منه..
النور القادم هو النور الذي سيخترق منافذ الجراح ، ، فلا يبقي من شرارة الماضي إلا نتاج التجربة ، ولا يبقي من خذلان الحاضر إلا التحدي والمناضلة ، ولا يستعرض المستقبل إلا بجرعات الأمل والتوكل..
هذا القادم سيلعن وسوسات الشيطان ، وسينخر في صميم الشهوة التي تشتهيها ساجدة في معاقرة الحزن القاتل وتعاطي سمومه ،  وسيخرج أثقال المآسي الجاثمة ، لتحدث أخبار النفس  أن ثمة ولادة جديدة على مقربة من موئل الرسوخ ، ومشارب الثبات ، واليقين..
هذا القادم سيفجر ينابيع السكينة ؛ لتغتسل الشفاه المتشققة بمجرى القنوات المعانقة لأوردة القلب النقي ، فتشرق الإبتسامات في وجه العالم الكئيب  الذي استباحت أشباح الظلام عذريته ، و سقته علقما أفقده الحياة ، وأفقده الإبتسامة..
*****
... وفي ساعة غشيت رحمة السماء فيها ساجدة ، يبزغ الفجر المفقود مرخيا بأجنحته الحنونة على قلب ساجدة الطاعن في الألم ، رغم أنها لا تزال تغط في نومتها المشهودة ، تسري أبجديات النور  في سلم الروح المتهاوي ، تنثر في تصدعاته غراء لن ينفد أثره ، ولن يذوب كما ذاب غراء الشمع من قبل ، وانحسر في الخفاء ، بل ستتصلب أمزجته ؛ ليكتمل البنيان الذي ابتنته الروح  المؤمنة لولا الأعاصير التي زعزعت فتوته ، وسعت إلى الخراب...
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون  وستردون إلى عــــــــــــلم الغيب والشهـــــــــــــــــــــــــدة فينبئكم بما كنتم تعملون [105] وءاخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم  وإما يتوب عليهم  والله عليم حكيم [106] )
وما أمر سريان اليقظة في قلب ساجدة إلا كلمح البصر ، أو هو أقرب ، إذ سلكت صحوتها بكل سلاسة وانسيابية سبل ربها ذللا ، فساجدة كانت تحمل في قلبها إخلاصا دقيقا لهذه الأمة ، حيرها وحير ثباتها وصبرها ، بل كاد أن يعميها طموحها لولا استيقاف المرض لها ..
والآن يا ساجدة ها هو النور بين يديك ، فاصنعي من ذراته عقدا تزينين به صدرك الذي ضاق ذرعا بمآسي أمتك ، ولتقلع مراكبك من جديد بشعاع رباني من  وحي " وقل اعملوا"..
يكسر شعاع النور غفوة ساجدة ، فتصحو وفي داخلها يتحرش شوق عارم لكتاب الله  يستولي على منابت أحاسيسها الطاهرة . هبت مسرعة كالريح متجاوزة معالم الغرفة ، لتمسك بمصحفها الأخضر ، وتنحني تقبله ، وتبلله بدموعها الحرى، ثم تجذبه بحرارة إلى صدرها لتخمد بغيثه كل حريق ، وتطفئ ببرده كل دخان .
وحين اغتسلت بدموعها ، شرعت تتغنى بآياته وهي تتدثر بغطاء الخشوع ، لا تكاد تقرأ حرفا حتى تمحي من ذاكرتها تشبثات المعاني الهلامية ، والذكريات المرة ..
فالمسافة بين السطور الجديدة وبين عتبة قلبها مسافة ممهدة لا تفرضها نزعة حزن أو ثورة طموح ، أو وسوسة شعر...
بل إن آيات الكتاب تتخذ من الخواء الذي بصق فيه الدخان المتصاعد سكنا أبديا تقيه حرارة الهموم ، وبرد الإنكسار ..
.. إنها باكورة النفع الذي سيمكث في الأرض .. وغيرها زبد سيذهب جفاء..
(وقل اعملوا) يا ساجدة ، فالعمل هو جدارة الصادقين الذين فقهوا معنى الجهاد في سبيل الله فقها أعمق من الإرتماء السريع في ساحة المعركة بلا سلاح ولا بصيرة..
(وقل اعملوا) فالعمل يخضع لقوانين عدالة السماء ، أما الحزن الفارغ  فلا ...
(وقل اعملوا) فقلب الكون يئن  وقد تلقفت الأرواح الملحدة  دفة العمل فيه ، وركنت  أرواح المؤمنين إلى البكاء ، واصطناع الشعارات المقننة..
(وقل اعملوا) ليرى الله عملك ، ورسوله ، والمؤمنون..

*****

هكذا أردفت ( وقل اعملوا ) تروي ساجدة من شهدها النوراني ، فسلامة البدايات إقرارا بجودة النهايات ، لا سيما عندما يكون المفتتح وحي جليل من رب الأرض والسماوات  ، تماما كما كانت ( وقل اعملوا ) رحمة ابتدرت ساجدة التي كانت على شفا جرف هار ...











(7)

أشرقت الأرض بنور ربها ، وأخذت زخرفها ، وتزينت ، وسكبت السماء من طهرها طهرا ألبس الأشجار ، والأزهار ، وأسقف الأبنية عمائم الندى ... وانطلقت العصافير بتسابيحها العذبة تبث في الكون  صوتا جديدا للفجر يغري الأسماع  بالسماع ، ويغري العيون بالنظر...
ما أشبه منظر الأرض المشرق بنفس ساجدة الآن وقد فرغت لتوها من صلاة الفجر التي أحست  أن لها طعما آخر للخشوع اختلط بهذه النقلة النوعية في حياتها ، فإن كانت دموع الخشوع امتزجت بشعور الضعف ، وتكالب الظروف فيما سلف ، فإنها الآن تعانق بكل صرامة شعور الإنطلاق ، والحماس الحكيم الذي أشعلت ( وقل اعملوا ) شرارة البدء فيه..
تتناول  ساجدة  المصحف الشريف بكل حرص ،.. وتقرأ.. سورة إثرسورة  وكأنها بين إيحاءات السور في حلم من الأحلام النقية تتراءى فيه إضاءات من إشراقة الحروف التي تجود على ساجدة ببعض ضيائها ، وكأنها تبدلت خلقا من بعد خلق : عينان رقراقتان ببريق من فضة.. وصفحة وجه بيضاء متوردة .. وجسد مستجمع لقواه وكأنه لم يألف النحافة يوما.. وفوق هذا شعور بالسعادة لا يكتشفه الناظر إلا إذا حدق في شفتي ساجدة الزهريتين اللتين تظللان  عقدا من لؤلؤ منضود...
وفي قمة الحيوية والنشاط ، تستعد ساجدة للذهاب إلى الجامعة ، قاصدة مكتبتها العامة ، تتدثر بعباءتها التي كانت تزيدها وقارا وهيبة ، ويقع بصرها على وجهها الذي عكست المرآة المعلقة في جدار الغرفة صفحته أمامها.. فابتسمت ابتسامة طاهرة شفافة وهي تسترجع عتابات ميساء ، وعباراتها المتكررة عن نضارة الشباب  ، والعمر الذابل ، والصحة المهملة ، فتتحدث وكأن ميساء بين ناظريها:
إيه يا ميساء..
إن قلبي قد اختار الحزن أليفا..
فبصم به بصمة خالدة في محياي
لكنه لن يقيدني بعد اليوم بقيوده الوهمية
وسأنطلق.. بل إني قد انطلقت الآن...
ثم تعرج على أدوات زينتها البسيطة  لتستقر عيناها على دهن العود الفاخر الذي تحبه كثيرا ، وتحرص على اقتنائه مهما كان باهضا في ثمنه..
ترفعه إليها لتشم رائحته الزكية ، فتسافر مع عبقه إلى مراكب ذكرياتها في المستشفى ، حيث شجرة الزام ، وباقة الأزهار البيضاء ، والورقة المعطرة بالعود..
فتتردد في مسمع خيالها تراتيل تلك الورقة التي حفرت في قلبها نقوشا تأبى أن تندثر ، إذ أيقنت صدق كاتبها ن ونبل غايته ؛ لأن الكلمة مهما بلغت في رسمها ، وجرسها ، فإنها لن تحطم الحواجز ، وتبني الجسور إلا بمقدار ما يسكنها من صدق ، وإخلاص ، وتفان.. فكثير من الناس يتلذذون حين يحركون أقلامهم المنطلقة ، والمتجاسرة ، في الحديث عن قيم الجمال والصدق ، في حين لا تعدو كونها شهوة ، أو شبهة، حسب فاعلها أنه قد حرك قلمه ، فلا سدد، ولا قارب...
*****
تغادر ساجدة مبنى السكن الداخلي ، ميممة شطر المكتبة للبحث عن كتب  تروي ظمأها  في حب العمل الإسلامي ، إذ أيقنت أن ما تقتنيه من مقالات متشتتة ل"فتحي يكن" و "سعيد حوى" ليست كافية لإعدادها إعدادا متقنا في هذا المجال..
فبدأت تبحث ، وتجتهد في البحث  إلى أن وجدت مبتغاها ، ومن غير أن تشعر انطلقت ساجدة في القراءة ، والغوص في أعماق التجارب ، والأطروحات التي تطرحها مثل هذه المؤلفات ، منفقة الساعات الطوال من وقتها في التحقيق والتمحيص ، وكأنها تعد العدة لمواجهة عدو متوقع.. إذ كان أكثر ما يؤرق ساجدة قضية دور المرأة في العمل الإسلامي  ، والأدب والفن  وخدمتهما للإسلام ، وقضية الإصلاح...
فانطلقت تدون ملاحظاتها في ترتيبات ، وضوابط العمل الإسلامي ، ثم إنها لم تكتف بمادة الكتب  التي بين يديها وخاصة أنها تخلو من التجارب الحديثة في هذا المجال ، فشرعت تستكمل مادة بحثها في مواقع الشبكة العنكبوتية  ، إلى أن تجمع لديها كم هائل من المعلومات ، والتجارب الرائدة..
ولايمان ساجدة العميق بالعمل الجماعي ، وفضله في اختصار الكثير من المراحل ، آثرت الإجتماع بعضوات نادي (قوارير) في الجامعة ، لدراسة ومناقشة مشروعها الجديد الذي تأمل أن يرى النور قريبا...
*****
.. وفي المساء تجتمع ساجدة بعضوات نادي قوارير ، وقد بسطت مشروعها الجديد بصورة منظمة ، وبطرح عميق ، مستهلة ذلك الاجتماع بالحديث عن طبيعة (الاستخلاف الإسلامي) على وجه الأرض في الوقت الراهن ، والذي من الواجب على كل مسلم تمثيله سواء  على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة ، مع ضرورة النزول إلى أرض الواقع  بأدوات الفحص ، لا من أجل ذات الفحص بل من أجل الترشيد والتصحيح..
ثم استعرضت القضايا الثلاث التي ارتأت أن يتم التعاون بين العضوات في سبيل إنجازها ، لغرس روح التعاون والولاء للجماعة ، ولضمان جودة الإنتاج والعطاء..
إن ساجدة كانت على يقين بحدوث الإنقسام والإعتراض بين عضوات النادي لا سيما وأن أكثريتهن  خدمن العلمانية السائدة في المجتمع الجامعي ، لذلك وبالفعل وقبل أن تفرغ ساجدة من استعراض باقي النقاط ، غادرت معظم العضوات قاعة الإجتماع ، وقد ضجت القاعة بالجلبة التي أحدثنها حين أعلن الإنسحاب نهائيا من عضوية نادي قوارير وقد تبنى "العمل الإسلامي" مشروعا جديدا له..
... وفي كل زمان نجد أن الجاهلية هي العدو الأول للمشروع الإسلامي كيفما كانت ، وكأن أبا جهل قد اعتدى سفاحا على ملايين النساء في قرون متعددة ، ليلدن من الجاهليين ، والجاهليات الملايين من المنتصرين لقيم الجهل ، ما يكون بمقدوره إجهاض الأرحام النقية لولا صلابة الايمان ومتانة الروح..
لن تهزم ساجدة وقد شقت نطاق المجد ، وتمنطقت بنطاقه وأفرغت قلبها إلا من حب الله ، والعمل من أجل دينه..
فلم ترع المغادرات اهتمامها ، وكأنه اجتماع تمحيص للذي آمنوا ، فاستمرت في عرضها ، وبيان فلسفة الانطلاقة الأولى، ثم اختتمت بخلاصة الندوة التي سيعقبها اجتماعات أخرى  لتحديد العضوات الدائمات ، ولتدارس المشروع ، ثم تخصيص آلية العمل من أجل البدء فيها..
إن البذرة التي أنبتتها "وقل اعملوا" في قلب ساجدة شقت جذورا عملاقة ضخمة في شغافه ، وأورقت ، بل وأزهرت ، لتعطي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولن يقتلعها سدنة العلمانية الحمقاء..
وسفينتها التي أقلعت لن تتراجع إذا زأرت في وجهها ريح الشتاء ، وراودتها عواصف الإغراق عن بر الأمان ، ومرفأ السلامة..
فآيات الله إذا لامست بلطافتها أسطح القلوب ، فإن ثمة شعورا عجيبا يشبه الهداية يخترق الأحشاء،  وينفذ بريق من وهج إلى أغوار القلب السحيقة ، فيحرر أقفالها ، ويغريها باقتفاء أثر توهجه حتى يأتيها اليقين..
*****
يعرج الحزن على فؤاد ساجدة مهزومة حدته ، متقهقرة قواه ، لا كما ألف بدموع تحرق المآقي ، وبآهات تضاعفت بها الأوجاع..
وبعد يوم متخم بالأعمال ، أرهق الأهداب ، ونفض تراب الماضي عن وجنة التاريخ في بوتقة الحروف ، وحظيرة الكلمات ، خاصمت حروف اليأس ، والتطير قاموس ساجدة الماضي إلى التفاعل مع المجتمع فلم تعد جهالة المثقفين –كما في نادي قوارير-تؤرق ساجدة وتطوي صفحات مناماتها على دموع الأسف ، بل أنبتت حبات العرق التي تصببت من جبينها السمح رغبة قوية في الحياة التي يكون فيها لهذا الدين شأن... وأي شأن..
... تعود ساجدة ..عودة يكللها الوضوء إلى مصحفها الحبيب الذي فارقته فراقا حسيا ، يظنيها على كل حال . وكعادتها تنحني تقبله تقبيلا حار ، تستقي من ورده لتطفئ به لهيب صحرائها شيئا فشيئا..
تعرج بها قوافل الخشوع إلى مملكة الشعور في أرض الكليم موسى وهو يرتحل بدعائه الفائض بالصفاء ، والمتضمن لإستجداء الوسيلة من ربها ، إذ ترائى لها وهو يرفع أكف الضراعة لله وحيدا منقطعا..
"واجعل ....
ما أصدق أرواح الأنبياء عندما تتوسط الأرض والسماء ، فتغدو أروع ما يكون الانسان ، وأروع ما يكون النبي ، فالانسان إذ يعدم سمات النبي تتعكر رحلة مسيرته إلى ربه بنزعات الجهل ، والهوى ، وإن تملكه قلب خالص متدرج في سلم الشفافية الناصعة ، بينما النبي الانسان يكسبه الوحي شيئا من العظمة والسمو ، فيرتقي به نحو الكمال المعطر برائحة الملأ الأعلى ، فلا تتقاذفه أمواج الإبتلاء إلى شواطئ الجفاف والفراغ ، بل تصنع بمدها ، وجزرها بطولة الايمان ، وصدارة الثبات ، فتتوافد مدد التوفيق من السماء حينما يبلغ الخشوع قمته في تراتيل الدعاء..
.. ولأنها كانت تعشق أخبار الأنبياء مع ربهم ، كانت تدفع نفسها إلى مشابهتهم مشابهة الاقتداء والتأسي ، فوجدت نفسها تلهج بدعاء كدعاء موسى في رغبته بوزارة هارون له، كانت تدعو أن ييسر لها رفيقة درب في مسيرتها الجديدة لتكون لها عضدا ، وكثرة..
وكانت ترسم في حنايا صدرها المترامي بالحكايا ، والقصص ، والذكريات ، صورة ميساء ذات القلب الماسي ، والوجه الباسم ، والعشرة الطيبة ، فنظرت في انعكاس القطرات المنسكبة من شواطئ الدمع بريقا لامعا كالحلم ، وكأنه بشير خير لمباركة السماء لصداقة ميساء التي كانت كثيرا ما تردد في مسمع ساجدة:"إن الأمة تخسر أبناءها من جراء اليأس والحزن ، أكثرمما تخسرهم من جراء القصف والحرب".
ساجدة تعلم أن ميساء فتاة متزنة ، لا يلتهمها الحزن إذا حزنت ، ولا يشطط بها الفرح إذا فرحت ، بل تقاوم الحزن بالإبتسامة العامرة ، وتتبع الفرح بالحمد والشكر، وتعلم  أيضا أن ميساء تمتلك رؤية واضحة للمستقبل بصورة ناضجة وواعية، وإن افتقرت لبعض المؤهلات ، لذا فقد آن لك يا ساجدة أن تتوجي هذه الصداقة بتاج يضيئه (العمل في سبيل الله) لتكون حجة لك لا عليك، فبهذا تنالين منابر النور يوم القيامة والتي يغبطك بها الكرام الصالحون..
و"الحب" الذي يسكنك تجاه ميساء ، وتجيش به مشاعرك ، لهو عاجل هذه المنابر، وهو نورها في الدنيا، وإنه خيط مقدس في نسيج هذه العلاقة التي ستتشابك ، وستلتحم مع الماء ، والهواء..
فالمرء كثير بإخوانه... قليل بنفسه
والعلاقات الإنسانية تتجذر في الأعماق بمقدار ما يتجسد أصحابها الصدق ، والحب ، والإيثار..
وإن أكثر ما كان يجذب ساجدة في ميساء  أنها تعمل بصمت ، وهدوء ، وهذا قمة الرقي عند المشتغلين في حقل العمل الإسلامي –على الأقل- في منظور ساجدة.


(8)
 شيئان متشابهان في هذه الأثناء ..
نبضات قلب ساجدة التي تخفق مع شقشقات الفجر ، ورحيل السحر.. ودقات عقارب الساعة التي كانت تشير إلى الرابعة فجرا ، حيث ترقد النفوس الخلية ، وتبقى نفوس أخر لها مع الله لقاءات...
تستفيق ميساء على وقع طرق خفيف عند الباب ، وكأن الوهن قد بلغ بصاحبه مبلغا بحيث تضمر بين طرقاته آيات الثبات..
فإذا بها ساجدة .. أخت الليل .. وسيدة النهار..
ترتمي في أحضان ميساء  ، وتنفجر بالبكاء.. فتشق سكون الليل ، وهدأة المكان ، قائلة لميساء بنبرة يحاصرها الألم ، وبنظرة أرهقتها الوحدة ، والغربة:
" ميساء.. إني أحتاجك بقربي.."
تضمها ميساء ، وقد ترقرقت نفضتها في صفحة الوجود ، وارتعدت فرائصها ، وتاهت أدمعها بلا قيد..
هل يئست ساجدة من الأرض التي-كما قال الرافعي-إنها لا تقدس البكاء ، فأطلقت لعينيها العنان تبكي وتبكي في أحضان دافئة كأحضان ميساء؟!
هل ستعي ميساء قيمة الدموع التي دافعت بعضها بعضا من نقطة محترقة في قلب ساجدة إلى أحضانها المشرعة؟!!!
فكما يبدو أن ميساء تجهل عن ساجدة الشيء الكثير ، مما يصنع عقدة في أحبال العلاقة التي تنمو وتشتد بمقدار ما تستشف ميساء ما وراء دهاليز الغموض الذي أغرقت ساجدة نفسها فيه.. والدموع في شريعة ساجدة استجداء أخير ، وسجود من وحي الألم ، وانسكاب زاحف في مساحات الجراح، وهو تقوقع آخر نحو الذات وإن صادفت ذاتا أخرى ، تحن ، وتصفو ، وترق .. كذات ميساء!!
تتناول ميساء منديلا من مناديلها المعطرة بدهن العود الذي تحبه ساجدة ، وتذوب في عبقه ، لتمتص به نزيف الدمع المتدفق ، ولتطير بساجدة إلى ذكريات الزهور البيضاء...
ميساء: هوني عليك يا ساجدة  ، وافصحي لي عن سبب الكدر !
ساجدة: ميساء كوني معي ، فالدرب طويل ، وشاق !
ميساء تبتسم ، وتتحدث حديث المتغابي ، المتعامي عن الحقيقة ، ألا من يشتري سهرا بنوم ؟!!
أتريديني أن أمارس الشقاوة كما تمارسينها على الأساتذة؟
تتضاحكان معا ،، فهذا طبع ميساء حين تقتحم الأعماق بابتسامة صافية تشق ميدان الدموع لتؤتي  أكلها .. بعض حين..
ساجدة في لحظة نادرة:
ميساء يا حبيبتي :
إن من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء ، وأحدنا إن نذر نفسه لله فعليه أن يتقمص الجدية ، ويرتدي الإخلاص ، وأنا –ومنذ طفولتي-التي غادرت مرابع اللعب ، وعلقت دميتها في أرشيف الزمن الذي لطخها بغبار النسيان وتلاحق السنين كنت كمن احترف الحزن ، والبكاء ، إذ ثمة شيء في جعبة الطفولة كان يندثر بداخلي ، ويتعملق في محله شيء أكبر من المكان ، وأسبق على الزمان ، فالمكان صدر طفلة متشعب ، والزمان ، سبع سنين من سني الإنفصام ، والمفارقة.. أمي ولحدسها القاطع كانت تفتش عن السر الذي تغيب فيه كل أفكاري ومفاتيح الإنتباه لدي ، فلا تلوي إلا بالحسرة والألم ، ما بال ابنتها تعاف الحياة ، وتزدري الفرح ، فكانت كثيرا ما تفتش في أوراقي ، ومذكراتي عن الأشياء التي  تستهويني علها تستطيع أن تجود علي بنصف سعادة تصنعها على شفتي الذابلتين، ولكن ما كل بارقة تجود بمائها !!!
أبي الذي تدرج في مؤسسات التربية ، وحقق نجاحا كبيرا في تفعيل دور التعليم كوسيلة من وسائل النهضة ، وقد أكمل دراساته العليا في بلاد الغرب كان لا يحسب لنجاحاته أو يعدها شيئا مذكورا وقد فشل في أن يسبر أغوار طفلته ، أو حتى أن يحل شفرات حزنها المنطبع على كينونتها الصغيرة...
وكبرت ، وكبر الهم  والحزن ، وتضخم الألم الذي بدأت أتحسس مساراته ، وأقتفي أثره..
ففي ذات حزن .. وانقطاع من البشر.. كنت أستمع لنفاثة صدر قذف بها بلبل غريد في إحدى السفطات السمعية المنتشرة في تلك الأيام في أنحاء المدينة ، وكان مما تخلد في الذاكرة:
أمتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يا ويح قلبي
ما دهاك
دارك الميمون أضحى كالمقابر
كل جزء منك بحر من دماء
كل جزء منك مهدوم المنابر
هل ترى يا أمتي
ألقاك يوما
تكتبين لنا من النصر المفاخر
ذلك اليوم الذي
أرجوه دوما
أن أراك عزيزة
والله.. قادر
...
... ما مر يوم على ساجدة إلا وهي تترنم بهذه الكلمات .. حزنا لا طربا .. ألما لا أملا .. فاقتات بها الحزن ، واقتاتت به ، وكأن آلام الأمة عصا سحرية ألهبت عيني ساجدة فشقت فيها شلالات من الدموع لا تنتهي..
ميساء وقد غشاها الخشوع ، وتدفأت بحرارة الدموع ، تسعف ساجدة بكأس من الماء البارد، فهي أدرى الناس بمرض ساجدة ، وجذوة النار التي تشتعل بين رئتيها كلما تذكرت واقع الأمة الأشل..
ميساء: هاك الماء يا ساجدة.
ساجدة تستأنف الحديث:
           - وكبرت يا ميساء ، وكبر الهم والحزن..
            وباتت الأمة، وقد تكالب عليها أعداؤها ، وأخذ عدوها منها كل مأخذ ،  هي     نقطة الجذب في تعاقبات الليل والنهار عندي ، فقد أسلمت لقضاياها سمعي ، وبصري ، رغم أني لم أكن أفقه –لحداثة سني-عن الآلية الفعالة لإحداث التغيير ، وبسط نفوذ التنوير في ذلك المجتمع الغارق في ماديته ، المتشبث بجاهليته ، فقد كنت أحسب أن الأمر أيسر بكثير من أن تشحذ له  كل الطاقات ، وتنبري في سبيله الجهود الجبارة إلى أن ......
ميساء في ترقب :
-إلى أن ماذا ؟!
-إلى أن أكرمني الله بدخول (الجامعة) رغم أنها كانت محطة مؤلمة في حياتي ، إلا أن ما توالى فيها من أحداث كان بمثابة الشرارة التي بصرتني بما ينبغي لي القيام به.
ميساء:
-إيه يا ساجدة ما يوم حليمة بسر!!
أظننت أن أحدا ما –على الأقل-في نطاق الجامعة كان يجهل هذا التوجه الذي تتوجهينه؟!! أظننت أن ملامحك الحزينة كانت تغلق أبواب التساؤلات؟! ومرضك اللعين أظننت أنه لن يثير فضول الطلاب والمدرسين من حولك؟!
جميعنا يا ساجدة كنا على علم ويقين أنك صاحبة هم أرقى من أن يكون كهموم البنات .. الحب السقيم .. الجمال المبتور .... ال..
فكنت محط إعجاب ملاحظ رغم شراستك على بعض زملائك ، ومدرسيك ،
أما أنا..
فكنت أقرأ في عينيك طهارة عجيبة ، وكأن القمر يغسل أهدابه على أحضان مقلتيك..
نتاجك الأدبي في نادي قوارير كان يجذبني كثيرا ، فبالرغم مما يحمله من بساطة، ووضوح ، فقد كانت الجاذبية لا تفارقه ، روحك العذبة كانت تحيلني كتلة من حب ، ومن خير ، ذكاؤك الإجتماعي كان منارة تثير بداخلي حب  الاقتداء بك حتى في غيابك ، نظرتك للأشياء من حولك غرس بداخلي انسيابية مطلقة في موافقتك ؛ لأن حديثك الطاهر يلامس أوتارا بداخلي لا أستطيع بعدها إلا أن ألج عالم الطهر الذي تعيشينه ، رغم ما يكتنفك من هموم.. ولتعلمي يا ساجدة أن أرواح المؤمنين إذا تعارفت تآلفت ، وإذا تناكرت اختلفت.. وبطانة السوء في نادي قوارير ستنسحب عما قريب ؛ لأنها لا تقدس الروح بمقدار ما تقدس المادة ، ولا تقدس الأخلاق بمقدار ما تقدس الإنحلال ، فهي دسيسة العدو  يطفو عيبها للناظرين ، وهي سوسة سرطانية قد تستفحل بيننا فلا نجني بعدها إلا الحسرات...
ساجدة:
-أنت على حق يا ميساء ، لكن هلا وضعت يديك في يدي ، ولا حرمتني من دفئك؟!
سعادة عظيمة غمرت ميساء فمن ذا الذي يفوز بثقة ساجدة حكيم رئيسة نادي قوارير الأدبي ، والتي يشهد الجميع بثقافتها ، وعشرتها الطيبة ، وعصامية فكرها ، علاوة على تزاحم الشباب على الارتباط بها..
ميساء تراوغ ، وتجاهد في إخفاء سعادتها بمداعبة لطيفة:
-ومن أنت حتى أضع يدي بيديك؟!
ساجدة:
-أمة فقيرة إلى الله ، أسعى أن أصنع لأمتي فجرا جديدا.
.. تضاحكا .. وتعانقا .. وتعاهدا على المضي معا..

(9)
   صباح ينطبع إشراقه في الذاكرة الحية..
وتستلهم القلوب دفء التجدد .. ويقظة الضياء من نوافذ السماوات المستطيلة..
ووحي تقرع أجراسه أرصفة الوجود ؛ ليبتهل ابن آدم إلى ربه  ، ويشكره على منه ، وكرمه أن أودع في ليله ، ونهاره ، قيمة الحياة المتجردة من العبثية ، ؛ ليتيقن هذا الإنسان أن وراء كل ذرة في الكون رب أودع ، وقدر..
فصفحة الأيام حين تنطوي  بعبقرية الأرواح المتدفقة بالحب ، والعطاء ، فإن لون الصبح هو ميراث تلك العبقرية ، وبصمة تلك الأرواح..
فمن منا نحن بني البشر لم يحلم بصبح ينسج تفاصيله من ألم الفشل ، ومن نشوة التطلع ، والطموح ، من منا لم تغره الشمس في صلاحيتها لإبداء أشعتها أمام الكون بلا استحياء .. من منا لم تغره ساعات الصبح التي يبتدأ بها تاريخ الأرض ليصنع لطموحه الشرس تاريخا منظما ، وساعة تكتب لها الأبدية!!!
.. بالأمس كان طموح ساجدة قد تروض ، وتناسقت أمشاجه  ومذاهبه في لحظة خالدة ، تصدر فيها قوله تعالى : " وقل اعملوا" كل منبر ، وأتت على كل مفصل..
ثم كانت ساعة الاحتضان عند ميساء –المعدن النفيس والطهر المشاع-حتى يكون للأيام طعمها ، من عقب المرارة الضاربة في عمق الانكسار...
*****
تستهل ساجدة وميساء باكورة الإصلاح عند (قوارير) ذلك النادي الذي ودعه أهله بعد أن تبنت ساجدة المشروع الإسلامي كورقة عمل في طريقها للتثبيت على أرض الحقيقة.. ثم ضاعفت كل منهما الجهد من أجل تعميم فكرة العمل الإسلامي  على كل تفرعات نادي قوارير المنحدرة من الركن الثقافي فيه..
إذ أنشأت ميساء موقعا خاصا في الشبكة العنكبوتية يعنى بنادي قوارير في حلته الجديدة، في حين أن ساجدة كثفت من كتاباتها الكاشفة عن أهمية الأدب الإسلامي ، وأثره في تنشيط بؤر كثيرة في الأمة الإسلامية..
لكن –وكمصير كل بذرة خير-قصفت تلك الجهود بشواظ من النقد المدمر ، بل سعت بعض الضمائر المتفحمة لاختراق الموقع ، واستئصاله من الشبكة..
واستمر سرطان الهدم يتسرطن في كل انبلاج ، ويلتف حول كل صمود ، عل نواياه السوداء أن تستأصل الفكرة ، لتموت على حافة البدء..
بيد أن الصحبة المتوحدة ، والمتشبثة بحبل الإخاء الخالص ، النابع من صلابة الحق ، ومتانته ، هشم سحابة اليأس ، والإحباط من أن تمطر صيبا فيه ظلمات ، ورعد ، وبرق..
دار في خلد ساجدة أن مثل هذا الخطب قد يفت في عضد ميساء ، وربما يثنيها عن مواصلة المسيرة ، وهدوء النار إيذان بانطفائها ، فرأت أن تكتب بعض الكلمات على إحدى صفحات الموقع باسم مستعار .. عنونتها ب ( لا عليك ) :
إن بعض القطر
يشوي
جبهة الروح الوليدة
ثم من بعد الجريمة
يتشهى
أن يغرس خنجر
تتلظى
شفرات طعنته البليدة
لتقصم أظهر الأحلام
والرؤى
والخيالات اللذيذة
لا عليك
حسبك
ارتكاب الصدق
واقتراف الشعر
ثم
تتحدين بصبرك
الكتابات اللعينة
...
ألفت ميساء كل يوم وهي تشرف على موقع النادي أن تجد في كتابات العابثين سموما مرة ، كانت جديرة أن تأتي على بذور الفكرة فلا تترك لها من باقية..
وكادت آراء المتعجرفين المتناثرة كالألغام الموقوتة على صفحة الموقع أن تثقب جدار الصبر حتى أوشك أن ينقض ، لكن تلك الكلمات أوقدت شعلة الحماس في حنايا ميساء الممتلئة غيظا ، فكانت- بالكاد-أن تقرأها كلمة .. كلمة .. حتى شرعت في إفحام من هم كالأنعام بل هم أضل .. واحدا تلو الآخر..
*****
الأدب الإسلامي الذي سعت كل من ساجدة ، وميساء إلى الاحتفاء به ، هو ذلك الأدب الذي يرتقي بالذوق ، ويلم شعث النفس التي تشطح بها هلوسات اعتلاء عرش الأدب بالانحلال الأخلاقي ، وهو الأدب الذي يؤمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، فتستجيب


منافذ الأديب المطلة على الكون استجابة يقينية لهذا المعتقد ، لاتعتريها مشاكسة الشيطان الذي ينفخ في جعبة الأديب نفخات تصير يراعه عبدا مرغما للات والعزى ، أو تمسخه مسخا متساقطا على أعطاف لبنى ، أو ألحاظ ليلى..
الأدب الذي يقدس الفضيلة ، والحب العذري ، ويقدس القيم النبيلة التي تبني في الأمة جيلا جادا همه الحرية من أي باب تطرق .. آنفا عن التغنج ، ورعاية الخد الحريري..
الأدب الذي هو نتاج الحصيلة الفكرية ، والسلوكية للشخصية الإسلامية في عبورها التأملي في الكون ، والإنسان ، والحياة...
وحينما اتسعت قاعدة الموقع ، وتضاعف مرتادوه من مختلف التوجهات ، قرت العيون الساهرة ، وهدأت النفوس المضطربة ، وأمسكت طموحات الشباب الفتية ، وأشواقهم النقية بركب النجاة.. إذ تتيه النفوس المشرئبة للخير في الوسط الجامعي في متاهات ، تتشعب بمقدار ما يخفت نور العقل ، وتخفت بصيرة القلب إزاء كل جديد من شأنه أن يهدم الأخلاق ، ويسحق المواهب..
*****
يتعرى الليل من وحشته.. وتخلع النفوس لباس الخوف .. حينما تنير أضواء اليقين بالله سماوات الكون ، وسماوات القلب ..
... لقاء حميم يجمع ساجدة ، وميساء ، وكل منهما تعانق الأخرى عناقا حارا ، والدموع تجري من ضفاف العين دون سابق إنذار..
ساجدة : ميساء لقد ثبتنا الله على الحق.
ميساء : لا تسأليني يا ساجدة عن دبيب الفرح الذي يدب الآن  كالكهرباء بأضلاعي ..
ساجدة : لقد أبليت بلاء حسنا يا عزيزتي  وكنت عند حسن ظني بك.
ميساء : كتاباتك يا ساجدة كانت محط إعجاب الجميع ، ولقد غيرت من مسارات الكثيرين الذين مالوا عن الحق لولا أن تداركهم الله برحمته في يراعك الفتي ، ولا أخفيك أن  الكثيرين من مرتادي الموقع قد اعترفوا لي بذلك ، وإن كانوا يشيرون إلى أنفسهم بأسماء مستعارة ، أذكر لك على سبيل المثال :
(العندليب) فقد كتب  لنا : الحمد لله الذي هداني ، وقلمي ، إلى جادة الصواب ، والفضل يعود بعد فضل الله عزوجل للأستاذة ساجدة حكيم.
(الطوفان ) الذي كتب : كل المصائب قد تمر على الفتى ، وتهون غير الجهل ، والبعد عن الصواب ، لقد تراجعت عن ماضي كتاباتي السخيفة ، وأنا الآن في طريق الجهاد بالكلمة ، ولا أزال أدعو للأستاذة ساجدة حكيم  في دبر كل صلاة وأنا الذي لم أسجد لله سجدة ، وأشكر لها كلماتها الحية..
وغيرهم كثيرون : الباشق .. ونضال .. أرض ميلادي ، فأتمنى أن تراجعي منتديات الموقع  ، وتغرسي في ردودك بذور التشجيع ، والأمل لهؤلاء الشباب !!
على أن أشد ما جذبني بالتفاتته ممن كتبوا .. أحدهم ، وقد عنون مقالته ب :
( هكذا  هي الروح المؤمنة .. إذا انطلقت !! )
وكان مما كتبه :
" جراح القلب إذا هبت عليها رياح التشفي ، والانتقام ، فإنها تتقرح ، وتنقلب بركانا لا يبقي ، ولا يذر ..
طاولي النجم أيتها الروح .. واعمدي إلى سلم السماء..
فرب هم خلف سعادة .. ورب قضية فتحت لصاحبها أبواب الجنة "
فوجدتها يا ساجدة وكأن صاحبها على علم ، ودراية بما نقوم به ، كما أحسست أنها رسالة تخصك أنت أكثر..
ساجدة وقد استولى عليها الفضول :
ما الاسم الذي توارى خلفه صاحب هذه الكلمات يا ميساء ؟ بالله عليك تذكري !
ميساء تجتهد في التذكر ، وتسترجع  الأسماء اسما بعد اسم ثم قالت :
إنه ( الفيلسوف ) !! نعم إنه هو ..
سارعت ساجدة إلى أقرب حاسب آلي في الجامعة ، ثم فتحت المنتدى ؛ لترخي على كلمات الفيلسوف عصارة حدسها ، وشرعت تقرأ ، وتقرأ ، ومن غير شعور وجدت نفسها تترنم بالعبارات الخالدة:
( الحزن مظنة المرض .. والمرض مظنة العجز .. والعجز أفيون الإنطلاق ... )
ثم قالت : أقسم بالذي فطر السماوات ، والأرض ، أن من كتب هذه الكلمات ، وتلك لهو كاتب واحد !!!
وأخذت تحدث نفسها :
من هذا الذي يرابط –برسائله- عن بعد ، كيف له أن يكتشف ما يدور ؟ وما سر هذا الشعور بداخلي  ، شعور سعادة مختبئ  كلما قرأت أحرف ذلك المجهول ؟ هل هو حبي للرسائل المشفرة نفسها ؟ أم هو شيء آخر ستكشف لي الأيام كنهه ؟!!!

(10)

بدأ الصيف .. بحرارته .. ونصبه ..
وبدأت ساجدة ، وميساء تعدان أجندة نادي قوارير ، وفعاليات صيفه ، المشتملة على مجموعة من الندوات الخاصة بعلاقة الأدب الإسلامي بشخصية الأمة ، ودور الفن في خدمة الإسلام ، ودور الشباب –الموهوب خاصة-في  إيصال رسالة الإسلام إلى العالم ..
وكان مما أثلج صدر ساجدة ، الإقبال المتزايد من طالبات الجامعة في الإنتساب لنادي قوارير ؛ لأن هذا يعني بالضرورة تخلي هذه الطالبات عن الطريق القديم  الذي طالما جر الشباب المسلم إلى الهاوية..
ساجدة وميساء  كانتا تعدان لهذه الندوات قبل فترة طويلة ؛ لتكون عند مستوى الرقي الذي تتميز به طالبات الجامعة.. وكان هذا الإعداد يشمل اختيار المحاضرين ، وإعداد الأسئلة ، وإدارة الحوار ، ومن ثم تصنيف التوصيات ، وتفعيل الدور الإعلامي لهذه الندوات ..
أحست ساجدة بالفرق الشاسع بين نادي قوارير بالأمس واليوم ، فبعد أن كانت الجهود مبعثرة ، وصميم القضية مسلوب الهوية  ، أصبح الآن نادي قوارير يخدم الإسلام في العلن ، وبمباركة الجامعة ، فسكبت دموع الفرح ، وتمنت لو أن تجربة هذا النادي تتكرر في كل الجامعات ، والأوساط المثقفة بلا استثناء ..
كانت الجهود مقسمة بين ساجدة ، وميساء ، وباقي العضوات ؛ لضمان إنجاح فعاليات الصيف لزحمة مرتاديها من داخل الجامعة ، وخارجها ..
ساجدة بعد أن تولت الإعداد ، كانت هي إحدى المحاضرات داخل الندوات ، مع إدارتها للحوار في الندوات الأخرى..  ميساء كانت تتولى عرض فعاليات كافة الندوات  داخل موقع النادي ، أما باقي باقي العضوات فكان عليهن الإشراف على تنظيم النادي على مدى أيام الندوات ، مع الإشراف على اللجان الإعلامية فيه..
... ذاع صيت نادي قوارير الأدبي للفتيات بصورة كبيرة ، ليس على مستوى طالبات الجامعة فحسب ، بل على مستوى كافة الفئات خارج الجامعة ، ولقد كتبت كثير من الفتيات من خارج الجامعة لساجدة يبدين رغبتهن في الإلتحاق بالنادي.. بل أن المفاجأة الكبرى  والتي لم تكن بحسبان ساجدة ، تلك النقلة النوعية لمجموعة كبيرة من الأديبات داخل الجامعة ، وخارجها ، نقلة خصت الإبداع الأدبي من جهة ، والجانب الأخلاقي من جهة أخرى ، فبعد أن طغى الإنحلال داخل الجامعة من جراء دعوات العلمانيين ، نهض جو ايماني عند الأديبات على كافة الأصعدة ، ابتداء بارتداء الحجاب  ، ونبذ التبرج ، وانتهاء برغبتهن بإنشاء جمعيات فرعية تابعة لنادي قوارير ، تقدم بحوثا في الأدب الإسلامي ، وتدعو إلى الفضيلة ، والرقي بالكلمة...
لقد كان هذا النقاء في حياة الأرواح على مدار اللحظة هو النبض الذي دأب يدق في نقطة الإحساس الأبدية عند ساجدة حكيم ، فلقد أيقنت منذ صغرها أن الروح التي تبيع القرب بالمعصية هي روح معذبة تفقد الرغبة في مواصلة الحياة فضلا عن الاستمتاع بها ...
وكان العمل من أجل الإسلام هو شغل ساجدة الشاغل ، فهو الهم الذي استولى على قلبها الحي ، وهو المفتاح الذي فتح مغاليق قلوب كثيرة مرت في طريقها ..
وكانت أمام كل نجاح تسجد لله سجودا خاشعا تعقبه أدمع ، وزفرات ...
*****
ما الذي كان يدفع ساجدة إلى البكاء ، رغم أنها قد استطاعت- على أقل تقدير- أن تصل إلى كثير مما تريد .. أم أن ثمة أشياء كثيرة تحدث للمرء ولا يجد لها مبررا ؟!!
فساجدة وهي تتلقى رسائل كثيرة بعد إدارتها الناجحة لنادي قوارير ، كانت تميل إلى الإنطواء أكثر من ذي قبل ؛ ليتسنى لها البكاء كما تريد ، ولتترجم نجاحها في أحرف متناقضة مع الجو الذي عاشته مؤخرا ، فرغم أن عبير الفرح ، والنشوة يتطلب وجها طلقا ، وابتسامات عذبة ، إلا أن ساجدة كانت تستقي شعورا خلفه لها مرضها الذي تعاني منه ، وهو شعور مخيف إذا ما بدأ المرء يتعاطى سمومه..
،وفي المساء..ومن نافذة الغرفة تبحر ساجدة بمد بصرها إلى السماء وعوالمها العجيبة.. فتحدث نفسها:
هل للموت من رائحة نستطيع بها أن نتعقب أثره .. فنحمي أنفسنا ومن نحب من ملاحقته؟!
وهل لهذه النجوم من عيون تبكي بها إذا استشرفت نهايتها ؟
لمعان النجوم يوحي بسرمدية جليلة وحضور بهي أثناء الليل.. لكنها تموت في النهار .. وليس بين الليل والنهار إلا مسافات زمنية محدودة..
سنة الحياة إذن هذه التي ننتظم تحت لواءها ، فعظمة الأشياء لا تحمل مؤشر البقاء في جعبتها .. بل تحمل النهاية التي تقصم ظهر المتطلعين إلى الخلود..
*****
 سرطان الرئة الذي عاشت معه ساجدة كان يفتك بشبابها حتى في قمة ما يراها الناس على أحسن حال ، وهي على يقين أن لم يعد لها في الحياة إلا رمق قليل 
آثرت أن تعاود الطبيب حتى تكون الساعات القادمة أكثر لطفا على قلبها المعذب..
... تترك ساجدة العالم من حولها ، وكأنها تنظر إليه النظرات الأخيرة ، تركته دون أن تسجل رسالة وداع إلى كل الذين تعلقوا بها ، وبقلمها الخالد...
يحجز لها الطبيب غرفة خاصة بعد أن فحص رئتيها الذابلتين  ، ورأى أنها في حالة مؤسفة ، ولسوء وضعها الصحي هذه المرة ، آثرت إدارة المستشفى إبلاغ السيد حكيم  والد ساجدة ، وعدم الرضوخ لمطالب ساجدة في عدم إخباره..
حكيم عبدالمجيد أكاديمي يعمل في المملكة المتحدة ، وهو على وشك أن ينال درجة الأستاذية في التربية من بريطانيا ، ليعقب ذلك حمله لأسرته بما فيها ابنته ساجدة إلى هناك ، كان على علم بكل ما يدور في محيط ابنته من أحداث ، فهو ذو متابعة مسبقة مع إدارة الجامعة التي تدرس فيها ساجدة لموافاته بكل جديد..

 ... وقبل أن ترجع الروح إلى بارئها .. كتبت ساجدة لأبيها:
( أيتها الحياة التي احتضنت جراحي ، أيها الهواء الذي تمدد طوعا لأنفاسي المختنقة ، أيتها القلوب التي بعثرتني حينا ، ولملمت شعث أحاسيسي المكتظة حينا آخر ، إن في صميم الكون أسرارا عظيمة بوسعها أن تتولى صنوف أسئلتنا الغبية ، ليست الفلسفة حب الحكمة كما قيل ، بل إنها عقيمة جافة ، إن حثثنا التراب أمام أرواحنا التي تحيا بمقدار ما يحيا حب الله بين جنبيها..
إن حب الله هو المبتدأ ، وهو السماء التي تهبنا تأشيرة التحليق إلى ما هو أبعد .. أبعد بكثير من الأحلام ، والأمنيات  ، بل أبعد  عن مستقبل الدنيا ، وفراديسها المبثوثة..
ليت القلوب تعي مقدار الشقاء الذي تدفعه الإنسانية ضريبة إذا ما تغافلت عن واجباتها ، أولاها شقاء الروح الهلامية ، وآخرها تعاطي الجسد سموم الأسقام التي تفتك بصاحبها ، وتستعبد إرادته..
أبي الحبيب :
كنت أشعر بك إشعاعا ينير حالك الأيام ، إلى أن اكتشفت ليلة البارحة أنك الفيلسوف ، وأنك صاحب الكلمات الخالدة التي أعادتني إلى جادة الصواب ، فاشفع لي زلة الجهل ، وإلا فأي فتاة تجهل ظل والدها إن كان يرافق مسيرها..
ويطبع في آثارها قبلة الحكمة مع قبلة الحب ..
عذرا أبي :
لم أكن عند حسن ظنك بي وأنت الذي قلت لي  يوما : "أن المرض مظنة العجز.." فلقد شاخت خطاي .. واستبد بي الألم .. وها أنا على شفا ساعات من الموت ..
حيث المصير المرتقب ، والأمنية المعذبة ، وحيث توصد أمامي بوابات السمع ، والبصر إلى أخرى كالحديد..
فادعو لي يا أبي بالرحمة .. ولا تلهك الدنيا عن الدعاء لي في دبر كل صلاة .. ولا أزال أستجدي منك أن تبلل قبري بدمعة من عينيك الطاهرتين .. علها تحتضن رفاتي .. عندها يبشرني ربي بالقبول ... )
                                                                                  ابنتك:
                                                                                  ساجدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.... نهش سرطان الرئة في جسد ساجدة على عجل .. فخلفت وراءها قلوبا تبكيها صباح مساء..وكانت كلماتها هذه لأبيها سجودا أخيرا في محرابها الأدبي.